ليو كاراكس في الدار البيضاء: أفق سينماه بصري ثائر وممتع

03 مايو 2024
ليو كاراكس: الملامح الجمالية مستمدّة من الواقع (توني آن بارسون/FilmMagic)
+ الخط -
اظهر الملخص
- ليو كاراكس، المخرج الفرنسي، يقدم "ماستركلاس" في المهرجان الدولي للسينما المستقلة بالدار البيضاء، معبرًا عن تأثره بالسينما الروسية ورفضه للأفلام الترفيهية الزائلة، مؤكدًا على أهمية السينما كفن دائم.
- ينتقد الموجة الجديدة لكن يعترف بتأثيرها على وعيه السينمائي، مدمجًا فلسفتها في أعماله بأسلوب ثائر، معتبرًا كل عنصر في أفلامه ضروريًا كالمقطوعات الموسيقية.
- عبر فيلمه "أنّيت"، يُظهر كاراكس تجريبًا في الصورة والصوت وإعادة تعريف للجمال والقبح، مثالًا على الإبداع والتجديد في السينما من خلال إعادة تصور الشكل السينمائي نفسه.

 

ينتمي المخرج السينمائي الفرنسي ليو كاراكس (1960)، الذي قدّم "ماستركلاس" في الدورة الثالثة (20 ـ 25 إبريل/ نيسان 2024) لـ"المهرجان الدولي للسينما المستقلّة" في الدار البيضاء، إلى فئة قليلة من المخرجين العصاميين، الذين تعلموا الفنّ السابع في صالاتٍ سينمائية، كان معظمها يعرض أفلام "الموجة الجديدة"، التي لم يكن يجد في بعضها ما يستحقّ التفكير والتأمّل، مقارنة بأفلامها الأولى. السينما الروسية مثلاً كانت الأفق البصري الذي نقله إلى اختبار السراديب المظلمة في عالم السينما. فهو لا يرضى بكتابةٍ ترفيهية تُعرض وتُشاهَد وتُنسى كأنّها لم تكن يوماً، بل يحرص على إنجاز أفلام سينمائية عظيمة بنصوصها، ومؤثّرة بصُوَرها في الراهن السينمائي العالمي.

بغضّ النّظر عن نقده الموجة الجديدة، يجد المتأمّل لنتاجه أنّ لها تأثيراً كبيراً على وعيه السينمائي. فعلى مستوى النسق، يؤمن بأفلام الموجة، ويعمل بطريقةٍ غير مباشرة في اتّخاذه فلسفتها على مستوى التخييل، فتغدو سينماه أفقاً بصرياً ثائراً، في الكتابة والصناعة. لكنّ هذا التأثير ليس ميكانيكياً إطلاقاً، فسينماه مُمتعة بصُوَرها، وكتابتها قويّة، إذْ تبدو أفلامه كأنّها مقطوعة موسيقية، يستحيل حذف نوتة واحدة منها. هذا الوعي بالصورة السينمائية، بوصفها براديغما مُكوّناً من نسيج عناصرٍ وشبكة صُوَر، يعطي لأفلامه دلالات سينمائية خاصّة.

لم يكمل ليو كاراكس دراسته، ومع ذلك أصبح أحد المخرجين الفاعلين والمؤثّرين في السينما. وعيه بعدم أهمية دراستها، ليصبح المرء مخرجاً، قاده إلى ابتداع شكل سينمائي مُذهل، محاولاً أنْ يكون سيّد نفسه وسيّد عدسته في كلّ فيلمٍ له. صُوَره السينمائية تبحث عن الاختلاف والمغايرة، وسينماه تهجس بالتجريب البصري، وتجعل منه سنداً لتكثيف القول ومراكمة التجارب. مُشاهد أفلام كاراكس يقف غالباً عند الشكل الذي به يُقدّمها، والثورات الفنية في تاريخ البشرية لم تُحقّقها جِدّة الموضوعات وجماليات الكاميرا وسلاسة الأساليب، لأنّها ثورات على مفهوم الشكل أولاً.

وفق هذه المقاربة البصرية، يحاول كاراكس بناء جسر تخييلي، يستمدّ ملامحه الجماليّة من الواقع. يعمل بطريقة خفيّة في جعل صُوَره ذات نَفَس سوريالي حالم. ففي "عشّاق الجسر الجديد" (1991)، مثلاً، يختلط الواقع بالخيال، فيشكّلان معاً لغة مزدوجة في إعادة بناء واقع جديد. في مشهد الجسر، يرقص البطلان ليلاً على موسيقى فيروز، والسماء تغمرها ألوان المفرقعات، بينما رصيف الجسر يبدو مُنهدّاً وقبيحاً، مع أنّه يتّخذ صورة سينمائية مذهلة. في هذا المَشهد، الذي لا يُنسى، يُكسّر كاراكس مفاهيم تقليدية شُيّد عليها علم الجمال الكلاسيكي، إلى البحث عن شكل سينمائي جديد، يتعامل مع مفهوم "القبح" باعتباره جمالاً. هذا الخرق، في البنية البصرية للجماليّة الكلاسيكية، يُعدّ أحد العناصر الفلسفية الأساسية في الصورة السينمائية عنده.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

الوعي بـ"القبح" كمعطى فيزيقي جمالي ليس وليد السينما أصلاً، بل ظهر للمرّة الأولى مع الشاعر الفرنسي شارل بودلير في ديوانه "أزهار الشرّ" (1857)، وتحوّل في لحظةٍ ما إلى التشكيل، مع طلبةٍ لهيغل. لكنْ، مع تنامي الحروب والمجاعات والأوبئة المؤثّرة في البشر، تناولت أفلامٌ سينمائية الحروب والفظائع في روسيا وأميركا وفرنسا، وغدا القبح معماراً بصرياً يُشيّد عليه الفيلم. في سينما كاراكاس لا يكمن الجمال في حدّ ذاته، بل في العين التي تراه. هذا المنظور البصريّ، المؤسّس على "التمثّل"، يعطي إمكاناتٍ مذهلة للتفكير في المَشاهد، والتفاعل مع الأجساد المتحرّكة في الكادر، ويمنحها سُلطة فكريّة لتحديد معايير الجمال، انطلاقاً من الجسد لا من تاريخ الجمال نفسه، كحال تجارب سينمائية أخرى.

في "أنّيت" (2021)، أصبح الشكل السينمائي ميوزيكالياً، أهمّ من الموضوع والمعالجة. فيه تجريبٌ كبير في الصورة، وبحث عن جماليات جديدة ليُعيد كاراكس بناء عالم غريب. ورغم أنّ الفيلم السينمائي في ماهيته اشتغال مُكثّف على الصُوَر، أعطى كاراكس في فيلمه هذا قيمة كبيرة للحوار، وحاول منحه بُعداً مسرحياً. فيه، اتّخذت الثورة الـ"ميوزيك" إطاراً لتمرير الحكاية، بإعطاء الموسيقى بُعداً حكائياً مع النصّ.

فيه أيضاً، عمل كاراكس على أنْ يكون موسيقياً ومخرجاً في آن واحد، إذْ أصبحت الموسيقى تجديدية، وتميّزت بخليط عجيب من الفرق والأصوات والقوالب الممزوجة بين أنماطٍ مختلفة. مشاركة آدم درايفر وماريون كوتيار فيه أعطته صبغة شبابية تجديدية، ترتكز على مفهوم الخلق في الأداء. فشخصية هنري ماكهنري (درايفر)، غريبة ومختلفة في ملامحها وسلوكها وتفكيرها، وتعتبر امتداداً حقيقياً لتفكير كاراكس وطريقته في ابتداع شخصيات غريبة عن الواقع، علماً أنّ كلّ شخصياته مُستَمَدّة من الحياة اليوميّة في باريس، منذ ثمانينيات القرن الـ20 إلى اليوم.

المساهمون