لويس كابالدي... رغم القلق

31 مايو 2023
كانت أغنية Someone You Loved نقطة تحول كبرى في حياة كابالدي (دانييل نايتون / Getty)
+ الخط -

لعلها من المرات النادرة التي يُنتج فيها فيلم وثائقي عن فنان لم يتجاوز 26 عاماً، فقد أطلقت منصة نتفليكس أحدث وثائقياتها الموسيقية، Lewis Capaldi: How I'm Feeling Now، عن المغني والمؤلف الاسكتلندي، لويس كابالدي، الذي بدأ مسيرته نحو الشهرة منذ خمس سنوات فقط، وباع ألبومه الأول 10 ملايين نسخة حول العالم، واشترى جمهور حفلاته التي أقامها في 36 دولة أكثر من مليون تذكرة، وحققت أغنياته 15 مليار مشاهدة على "يوتيوب". 

إلى جانب ذلك، احتلت مؤلفاته موقع الصدارة في أشهر القوائم البريطانية والأميركية، ليمثل قصة نجاح استثنائية في السرعة والانتشار، رغم معاناته الكبيرة مع متلازمة توريت، وهي اضطراب عصبي، له أعراض متعددة، تمثلت في حالة كابالدي بحركات لا إرادية متكررة، تتفاوت في حدتها، ومدة نوباتها.

استطاع كابالدي، في وقت قليل، أن ينتقل بعروضه الغنائية من الحانات الصغيرة، إلى الملاهي الليلة، ومنها إلى الساحات الكبيرة، والحشود الهائلة. معاناته مع اضطراب القلق دفعته لأن يقول: "أشعر بأنني في سباق مع الزمن للحفاظ على صحتي العقلية".

وبعد النجاح الساحق في الأيام الأخيرة من عام 2018، جرى ترشيحه لجائزة اختيار النقاد في حفل جوائز بريت 2019. في مارس/آذار، تصدرت أغنيته الفردية Someone You Loved مخطط المملكة المتحدة الفردي، إذ بقيت في المرتبة الأولى لمدة سبعة أسابيع. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وصلت إلى المرتبة الأولى في ترتيب بيلبورد هوت 100 في الولايات المتحدة، وفي 2020 فاز بجائزة بريت لأغنية العام. كما فاز بجائزة أفضل فنان جديد.

مع اكتساح وباء كورونا، اضطر كابالدي إلى العودة إلى مدينته ويتبورن في اسكتلندا لبدء كتابة ألبومه الثاني. وفي أغسطس/آب 2020، حيث ذروة الإجراءات الاحترازية من الوباء، وبينما يسير بسيارته في شوارع ويتبورن لا يرى إلا المحال المغلقة والشوارع الخالية، ويحدث نفسه بأنه "اختار المهنة الخطأ"، التي أذاقته طعم النجاح لفترة وجيزة قبل أن يوقف فيروس كورونا كل شيء، أتاه نبأ تصدر أغنيته Before you Go على مخطط Airplay في الولايات المتحدة، وثباتها في المركز الأول أطول فترة في تاريخ القائمة. وفي مايو/أيار 2020، أُعلن أن أغنيته Someone You Loved أصبحت الأغنية الأطول بقاء في ترتيب المملكة المتحدة الموسيقي (في المراكز العشر الأولى) على الإطلاق من قبل شركة الرسوم البيانية الرسمية.

شكل هذا النجاح ضغطاً رهيباً، زاد من هواجس الضياع السريع للشهرة. تعاونت أسرة كابالدي خلال فترة الوباء لإتمام تأليف أغنيات الألبوم الجديد، الذي أرادوه مفاجأة قوية تصاحب عودة المطرب الشاب إلى جماهيره. وبالرغم من كل الآثار السلبية للوباء على التجمعات عموماً، والحفلات الموسيقية الضخمة خصوصاً، فإنه منح كابالدي فرصة لالتقاط الأنفاس، وإعداد الألبوم الثاني على نار هادئة.

دائماً كانت أسرة كابالدي بجانبه، فتلقى من والديه رعاية واهتماماً كبيرين، منذ أن اكتشفا حبه للموسيقى والغيتار. تتذكر الأم كارول: "كان دائماً غريباً في تصرفاته وملابسه، يعيش حياة عشوائية، وأحب الغيتار وهو دون التاسعة، وبدأ يتدرب لساعات طويلة". كما بذل والده جهوداً كبيرة في محاولة توفير فرصة للعزف في ناد أو ملهى ليلي. ويتذكر لويس أول مرة غنى في حانة، في عمر الـ18، إذ لم يلتفت إليه أحد، ويوضح معاناته قائلاً: "كان الجمهور مشغولاً بالكلام، وتكرر هذا لأعوام عديدة، أغني في تلك الحانات حيث لا يهتم أحد، لكن بمجرد نجاح الألبوم الأول كنت أسأل نفسي: هل يمكن أن أفعلها مجدداً؟ ولهذا ينتابني التوتر طوال الوقت".

كانت أغنية Someone You Loved نقطة تحول كبرى في حياة كابالدي، وقد أقر بأنه لم يعرف الشهرة الكاسحة إلا بسببها، لكن أغنية تبلغ كل هذا النجاح، وتحصد كل هذه الجوائز، وتستمر في جداول الصدارة ستة أسابيع متصلة، تحقق خلالها أكثر من مليار مشاهدة، صارت بذاتها عقبة يجب أن يتخطاها المغني الصاعد. كان يرى ألا جدوى من إصدار أغنية أقل جودة منها، لذا، خاطب مدير أعماله قائلاً: "سأذهب للإطاحة بـ Someone You Loved".

لكن في هذه الأثناء، وبسبب الضغط العصبي والإجهاد البدني، تصاعدت عند كابالدي نوبات ارتعاش الكتف، وبينما يزداد قلق الأسرة إلى حد مطالبته بالتوقف عن كتابة الألبوم الجديد وتسجيله، متذكرين أن الأمر تحول إلى أزمة أثناء حفله الكبير في منطقة ويمبلي، شمال غرب لندن، حين اضطر كابالدي إلى التوقف عن الغناء، بسبب حدة التشنجات، وقد وصف تلك اللحظة لاحقاً بالمروعة، لأن ثقته في نفسه وفي قدرته على كتابة الأغنيات اهتزت بشدة.

أصر كابالدي على أن يعيش حياته بطريقة عادية، وكأنه لا يعاني من أي شيء، جعل من الذكريات عاملاً مساعداً على تخطي كل العقبات. لقد بنى حياته المهنية من خلال كتابة مسارات أصلية وتسجيلها بنفسه وفي غرفة نومه، ثم إصدارها على "يوتيوب". بدأت مسيرته الموسيقية الفعلية عندما أطلق Bruises في مارس 2017، محققاً مئات آلاف المشاهدات، وقد حان وقت تكرار هذا النجاح، بمشاركة فريق من كتاب الأغاني والعازفين ومتخصصي الرقمنة الموسيقية. في هذه الظروف ولدت أغنية Forget me لتكون قاطرة عودة كابالدي، بعد أن احتلت صدارة القوائم.

يمثل كابالدي نموذجاً استثنائياً في إدارة الصراع المشتعل بين طموحه الفني غير المحدود، وبين معاناته مع مرض يؤثر بشكل كبير في أي محاولة للإنتاج الفني، ويزيد أثره إذا كانت العروض المسرحية واللقاء المباشر مع الجماهير جزءاً أساسياً من هذا الطموح. في فبراير/شباط الماضي، لم يستطع كابالدي إكمال أغنيته الشهيرة Someone You Loved أثناء حفله في مدينة فرانكفورت الألمانية، بسبب أعراض متلازمة توريت. وانتشر فيديو للمغني الشاب وهو يتشنج أثناء الغناء، وجمهوره يحاول مساعدته بإكمال الأغنية في أداء جماعي مؤثر لم يستطع معه بعض المعجبين أن يحبسوا دموعهم.

وفي سبتمبر/أيلول، الماضي أعلن كابالدي لجمهوره عن معانته من التشنجات طوال عمره، وأن الأطباء شخصوا حالته بمتلازمة توريت، وقال: "أسوأ شيء أنني أصاب بالتشنجات حين أشعر بالحماس، أو التوتر أو السعادة. أحياناً تكون مؤلمة وأحياناً ليست مؤلمة كثيراً". وبرر كابالدي مصارحته جمهوره بطبيعة حالته بأنه خشي أن يظن أحد أنه يتعاطى الكوكايين.
استطاع كابالدي، إذن، أن يحجز لنفسه مكاناً متميزاً في عالم البوب الذي لا يفهم إلا لغة الاعتراف الجماهيري.

امتلك كابالدي وجهاً يتسم بملامح طفولية، كما تمتع بحس فكاهي وطريقة كلام تلقائية تتفجر بالبراءة، وقد تضافرت هذه العوامل الشكلية مع كلمات أغانيه ذات الأبعاد العاطفية المعبرة عن الإحباط والفقد لمساعدة المطرب الشاب على تحقيق نجاحه السريع. هذا النجاح الذي فرض عليه في كثير من الأحيان توسيع جولاته الفنية، وإقامة عدد أكبر من الحفلات، فقد يكون الترتيب الأصلي أن يزور دولة ما ليقيم حفلاً في العاصمة أو إحدى المدن، لكنه تحت الضغط الجماهيري، يقيم حفلات في مدينتين أو ثلاث، وفي كل الحالات، فإن التذاكر تباع فور الإعلان عن مكان وزمان الحفل.

ومنذ أسابيع عدة، قدمت جامعة نوتنغهام إلى كابالدي جهازاً طورته على شكل ساعة يد، يخفف من التشنجات اللاإرادية الناتجة عن متلازمة توريت. ويولد الجهاز تيارات تحفيز كهربائية خفيفة للأعصاب في الرسغ، ويؤثر على شبكات الدماغ في توليد التشنجات، ويأمل محبو كابالدي حول العالم في أن يساعده هذا الجهاز على مواصلة حفلاته، التي أثبت فيها قدرته على الاستمرار والنجاح، كما أثبت أن "اضطراب القلق" لا يوقف بيع التذاكر.

المساهمون