يستعد لويس أرمسترونغ، عام 1957، لإحياء حفلٍ موسيقي في الاتحاد السوفييتي، كواحدٍ من "سفراء الجاز" الذين اختارتهم الولايات المتحدة ليصدروا أفضل ما لديها إلى العالم. على الجهة الأخرى، يحاول تسعة طلّاب أميركيين من أصول أفريقية الالتحاق بمدرسةٍ مختلطة في مدينة ليتل روك في ولاية أركنساس، ويُمنعون من ذلك من قبل حاكم الولاية والحرس الوطني. قد تكون الحرب الباردة السمة الأبرز لتلك الفترة، إلا أن حركات الحقوق المدنية كانت تعمل داخل الولايات المتحدة بالضراوة ذاتها، ولا شك أنها، كما كل الشؤون الداخلية لبلدٍ مثل الولايات المتحدة الأميركية، ستلعب دوراً في رسم الصورة الأميركية عند "الآخر"، إن كان خلف الستار الحديدي، أم لا.
يحتج أرمسترونغ عند سماعه برد فعل دوايت أيزنهاور، الرئيس الأميركي حينها، ويصفه علناً بذي الوجهين والجبان، ثم يُلغي حفله في الاتحاد السوفييتي، ولا يعود الود بين أرمسترونغ وحكومة بلاده، إلا عند تدخل آيزنهاور شخصياً، لحل المشكلة في ليتل روك، ليكمل أرمسترونغ بعدها جولاته حول العالم، ويحافظ على حذره بشكل دائم حيال سياسات بلده الداخلية.
في هذا المقال، سنحاول النظر إلى إرث أرمسترونغ "الدبلوماسي"، في جبهة الثقافة أثناء الحرب الباردة، وما بات يعرف لاحقاً بـ "دبلوماسية الجاز".
قبل أن نتطرق إلى دور أرمسترونغ خلال الحرب الثقافية الباردة، علينا أن نحدد موضعه خلال تلك الحقبة من التاريخ. ولأجل الدقة، فإن شهرة "ساتشمو"، تسبق الحرب العالمية الثانية، ويمكن تتبعها منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، خلال تعاونه مع مجموعتي Hot Five وHot Seven.
حينها، تمكن أرمسترونغ من تأسيس نفسه كنجمٍ على مستوى الولايات المتحدة الأميركية؛ الأمر الذي لم يكن بالسهل أو الاعتيادي للفنانين من أصول أفريقية. وأضاف لموسيقى الجاز ألقاً، وأعطى مزيداً من المساحة للعازف المنفرد ضمن الفرقة. وعام 1936، صار أول أميركي من أصل أفريقي يقدم برنامجاً إذاعياً، بالتزامن مع بداية جولاته الأوروبية.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين رئيسيين، وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها أمام أولوياتٍ جديدة. ففي أوروبا، كانت النخب الثقافية أكثر ميلاً للتعاطف مع الاتحاد السوفييتي الذي كانت دعايته ترتكز على فقر الولايات المتحدة الأميركية ثقافياً ومشاكلها العرقية بشكلٍ رئيسي. فرضت هذه المعركة تغيرات داخل الولايات المتحدة وخارجها، فلم يعد الفن الطليعي بدعة شيوعية، كما كان يعامل سابقاً، بل أصبحت التعبيرية التجريدية فناً أميركياً، يعبّر عن مناخ الحرية السائد في البلاد، ويجابه بهتان وطغيان الواقعية الاشتراكية، وصارت وكالة الاستخبارات الأميركية وجهة لخريجي "جامعة ييل" وغيرها.
وفي الواقع، فإن لوكالة الاستخبارات الأميركية الدور الأهم في هذه الحكاية، إذ قادت هذه المعركة عبر منظمة "كونغرس الحرية الثقافية" التي كانت مسؤولة عن تمويل عدد من النشاطات والمعارض الفنية والمجلات والمؤتمرات والعمل في أكثر من 30 بلداً، لمواجهة المد الشيوعي.
ورغم أن نشاط الوكالة، في ما يتعلق بالآداب والفنون، اعتمد على توفير قوةٍ مضادة موجهة للنخبة، إلا أنها في ما يتعلق بالموسيقى، انتهجت درباً مغايراً، وفضلت دعم الأنواع الأكثر رواجاً وشعبية؛ أي الجاز تحديداً. ورغم أن العالم لم يكن قد تقبّل الجاز بالكامل قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أنه كان قد وصل إلى بقاعٍ منه. ففي فرنسا، كان جانغو راينهارت قد حقق شعبيته بالفعل مثلاً، وصارت موسيقاه تستخدم لرفع المعنويات أثناء مقاومة النازية، كما أن عوامل أخرى، كراديو "صوت أميركا"، كان قد ساهم بذلك أيضاً، ولو بشكلٍ طفيف (وذلك قبل أن تبدأ الحرب الباردة ويدرك الأميركيون أهمية الجاز والراديو).
لذلك، عندما اقترح عضو الكونغرس، آدم كلايتون بويل، الاستعانة بالجاز منتصف خمسينيات القرن الماضي، بدت الفكرة منطقية جداً. فالجاز، بعد كل شيء، سيعبّر عن "الحيوية" التي ترافق اختيار نمط الحياة الأميركية والذات الفردية الخلاقة. كما أن إرسال موسيقيين من أصول أفريقية، وفرق مختلطة الأعراق، سيرسم صورةً مغايرة عما كان يجري في الولايات المتحدة الأميركية، على صعيد التفرقة العنصرية.
وكان بذلك ديوك إيلينغتون أول "سفيرٍ" للجاز ترسله الولايات المتحدة الأميركية إلى الخارج، ليتبعه أرمسترونغ ودايف بروبيك اللذان كانا يدركان من يقف وراء هذه الرحلات، على عكس فنانين آخرين، مثل نينا سيمون، التي خدعتها وكالة الاستخبارات المركزية وأرسلتها عام 1961 إلى نيجيريا تحت غطاء منظمة ثقافية أخرى، وشنت هجوماً لاذعاً على حكومة بلادها عندما عرفت بما جرى.
لم يكن أرمسترونغ كغيره من سفراء الجاز، لأسبابٍ تتعلق بقدراته وموهبته كعازف ترومبيت ومغنٍ، ولكونه واحداً من أوائل نجوم "الملتيميديا"، بعد أن كان قد ولج عالم السينما أيضاً. لذا، كان من الطبيعي أن يتم التركيز على "مجهوده الحربي" أكثر من غيره. وتعد جولتاه في غرب أفريقيا، وأوروبا الشرقية، نقطتين رئيسيتين لفهم هذا المجهود.
ففي الأولى، كان أرمسترونغ أمام جمهورٍ من دول نالت استقلالها حديثاً، كالكونغو وغانا ونيجيريا وتوغو وساحل العاج، وباتت في مكانٍ يحتّم عليها اختيار شكل دولها وتحالفاتها المستقبلية في زمنٍ شديد الاستقطاب. وعندما نتحدث عن ذلك، لا نعني جولة ممولة من الحكومة الأميركية وحسب، بل من الشركات الكبرى أيضاً، مثل "بيبسي" التي كانت تبني مصانع تعبئةٍ لها هناك، بقيمة تقدر بستة ملايين دولار، وشاركت بتمويل رحلة أرمسترونغ، وراقبت انعكاس ذلك على مبيعاتها هناك.
أما ثاني الجولات التي جرت في دول سوفيتية، كرومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية، أثبتت للأميركيين على الأقل أن ثقافتهم الشعبية تخترق الستار الحديدي، وأن أغاني مثل "هيلو، دولي" و"رويال غاردن بلوز" و"عندما يمشي القديسون"، وغيرها، كفيلة بتحقيق نصرٍ ثقافي للولايات المتحدة الأميركية. ومع كل احتفاءٍ بأداء أرمسترونغ، كانت وكالات الأنباء في الدول المذكورة تنشره، وكانت الصحافة الأميركية بالمقابل تتفنن في تأويل ما يجري، فنجد أرمسترونغ يحطم جدار برلين مرةً، ويهزم الشيوعيين مرة أخرى.
في الحقيقة، فإن أرمسترونغ استطاع بالفعل تليين القيود التي كانت مفروضةً في السابق على الجاز. هل نقصد بذلك أن أرمسترونغ فعلها وحيداً بمعزل عن الظرف التاريخي؟ لا، إذ تبدو نتيجة كهذه مغالطة يقع فيها أي قارئ للتاريخ بوصفه صنيعة مجموعة من الأفراد العظماء. إذ لم يكن هذا البرود تجاه الجاز لينكسر لولا برامج التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي أوائل ستينيات القرن الماضي، والتغيرات التي كانت تحدث في البلدين.
ضمن هذا الشرط التاريخي فقط، والمساحة التي وفرها، يمكن الحديث فعلاً عما قدمه أرمسترونغ والتساؤل عما إذا كان موسيقي آخر قادراً على تحقيق ذات النتيجة.
في الواقع، لا يمكن فصل مغامرات أرمسترونغ في الخارج عن المشهد الداخلي، سياسياً وموسيقياً. فاليوم، ثمة جدل حول إرث أرمسترونغ، يتعلق بدوره وموقفه من حركات الحقوق المدنية، الذي يترجم عبر ندرة تصريحاته العلنية ومواقفه المعلنة (مثلما فعل بالتزامن مع ما جرى في ليتل روك)، أو بسبب طبيعته الشخصية، التي وصفها البعض من موسيقيي الجاز أو الحقوقيين بإظهارها ملامحَ من شخصية العم توم. يُخاض النقاش ذاته في ما يتعلق بموسيقى أرمسترونغ أيضاً، وانتقاله السريع نحو عالم الاستعراض وأفلام الكوميديا، وإدخاله آلاتٍ وألحاناً تلائم هذا الانتقال.
على الجهة الأخرى، ثمة من يحاجج أن أرمسترونغ كان يبدي رأيه خلال أعماله، لا من خلال التصريحات وسواها. إذ كان أرمسترونغ دائماً ما يعمد إلى التلاعب ببعض كلمات أغانيه في جولاته الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا العرقية. كما أن كلاً من أرمسترونغ وبروبيك عملا لاحقاً على مسرحية موسيقية من تأليف زوجة بروبيك، اسمها "السفراء الحقيقيون"، وتحدثوا خلالها عن دورهم كسفراء للجاز، وذُكِر فيها عدة مرات عدم موافقة أرمسترونغ على سياسات بلاده الداخلية.
وإذا ما كان أرمسترونغ، إذن، "تجارياً" أكثر من اللازم، ومهادناً بالنسبة للبعض في أوساط الجاز والأميركيين من أصول أفريقية، فإن هؤلاء قد مضوا في اتجاههم الخاص موسيقياً. فمع ظهور نوع "البيبوب" في منتصف الأربعينيات، بالتعقيد والسرعة اللتين ميزتاه وابتعاده عن الإيقاعات الراقصة، كان جيل جديد من الموسيقيين، مثل تشارلي باركر، يعلن عبر هذا الشكل عن رفضه لكل ما هو قديم، وضمن ذلك موسيقى أرمسترونغ وموقفه الممعن في تصالحيته. لذا، كان من الطبيعي أن يبدي أرمسترونغ رفضاً وعداءً لهذا النوع، وأن يشعر بالتهديد في الداخل من الموجة الجديدة، وربما لعب ذلك دوراً كبيراً في قبوله بالجولات العالمية التي خاضها.
وإذا ما كانت هذه النقاشات لم تحسم حتى اليوم، فذلك مرده تعقيدها واستحالة النظر إليها كمجرد قرارات فردية أو شخصية، يتخذها أحدهم بمعزلٍ عن المناخ والظروف المحيطة حينها، كالعنصرية والمكارثية وإرثيهما، والخطاب المضاد لهما. وبعيداً عن ذلك، فإن قصةً كهذه، تخدم حاضراً كالذي نعيشه بقدر ما توفر مدخلاً لفهم الماضي، ويمكن أن تدفع لطرح أسئلة عن المنتج الفني التجاري و"غير التجاري" الذي نتلقاه اليوم، وعن الحرية والتلقائية اليوم في مجالاتٍ لم تتسع إلا نادراً لصفتين كهاتين، ومرهونة معظم الوقت بضغوط التمويلات والتسييس بدرجات متفاوتة، وبأشكالٍ تختلف في مباشرتها.