تنتمي لمياء الشرايبي إلى فئة نادرة من المنتجين المتطلّبين، والملتزمين مبادئ مهنةٍ بالغة الأهمية، في ميدانٍ سينمائي مغربي يغلب عليه مخرجون مضطرّون أو حريصون على إنتاج أفلامهم بواسطة شركاتهم الخاصة من جهة، ومنتجون لا يفقهون من السينما سوى لغة المال وبيروقراطية الدعم العمومي، من جهة أخرى.
وفق مقاربةٍ حرّةٍ ومنزاحة، تفصح عنها عناوين أعمالها الأولى، كالفيلم الجماعي "المحطّة الأخيرة للملائكة"، و"النهاية" (2011)، لهشام العسري، أنتجت الشرايبي فيلمين آخرين لفتى السينما المغربية المتمرّد (العسري): "البحر من ورائكم" (2014)، و"الجاهلية" (2018)، بالإضافة إلى أفلام أخرى، ظلّت عالقةً بأذهان السينفيليين، لجرأتها وتفرّدها شكلاً وموضوعاً: "فيلم" (2011)، لمحمد أشاور، و"ميموزا" (2016)، لأوليفر لاكس، الحاصل على "الجائزة الكبرى ـ نسْبريسّو" لـ"أسبوع النقاد"، في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" السينمائي"، من دون الاحتفاء المُستحقّ به في المغرب.
لم ينلْ الإجحاف، ورياح الظرفية الوطنية والعالمية غير المؤاتية، من عزيمة المرأة، فاشتغلت في الأعوام الـ5 الأخيرة على أفلامٍ مثيرة للاهتمام، بنسب مختلفة من التوفيق، منها فيلم الرعب "عاشوراء" (2018)، لطلال السلهامي، و"طفح الكيل" (2018)، لمحسن البصري، و"ميكا" (2020)، لإسماعيل فرّوخي، قبل دخولها المجال الوثائقي المغربي، الذي يشهد أخيراً فورةً نسبيةً، إنتاجاً وجودةً فنيةً، عبر 3 أعمال: "مدرسة الأمل" (2021)، لمحمد العبودي، و"زيارة" (2021)، لسيمون بيتّون، بانتظار إطلاق "جان جينيه، ذو الزهور"، آخر أفلام الراحلة دليلة النّادر.
في حوارها مع "العربي الجديد"، تتقاسم لمياء الشرايبي ـ بصراحتها المعتادة، وبعدم تردّدها في قول الأشياء، وبحماستها لتغيير الأوضاع إلى الأفضل ـ رؤيتَها للالتزام وسينما المؤلف والسينما المستقلّة، ومحطّاتٍ أساسية من مسارها المهني. كما تُدلي برأيها في مسألةٍ شائكةٍ ومُقسّمةٍ، تتعلّق بكتابة السيناريو في السينما المغربية.
(*) كيف أتاك الشغف بالسينما؟ وكيف حدث الانتقال منه إلى الإنتاج؟
درست الإعلام والاتصال، ونلت دبلوم دراسات معمّقة في الإدارة السمعية والبصرية. منذ البداية، كنت أعرف جيداً ما أريده: العمل في مجال "السمعي البصري". ينبع ذلك من احتياج داخلي، لأنّي منذ أن كنت طفلةً، كنت أشعر بالاشمئزاز من فكرة رؤية مظالم كثيرة في محيطي، فقلت لنفسي إنّه لكي أكون قادرة على تغيير التصوّرات وأنماط التفكير التي تُسبّب الإجحاف، عليّ الدخول إلى عقول الناس، من خلال التلفزيون، وأغيّر آراءهم وتصوّراتهم. منحني ذلك طاقة كافية، مكّنتني بعد دراستي من العمل في التواصل والدعاية، فكوّنت نفسي تقنياً في إنتاج "السمعي البصري". بدأت أشتغل على إعلانات تجارية كبرى، مع فنّانين كنت معجبةً بهم، مثل وانغ كار ـ واي وسبايك جونز وإمير كوستوريتسا. أنجزت مشاريع رائعة حقّاً، وأتيحت لي فرصة القيام بأشياء جميلة، فنشأ لديّ الاعتقاد بأنّ الانتقال إلى السينما أصبح ممكناً.
لاحقاً، حصلت على الجنسية الفرنسية عام 2002، فأعطاني ذلك شعوراً مهمّاً آخر، الحرية، بفضل جواز سفر سمح لي بالسفر حول العالم. بعدما أمضيت عاماً في السفر، شعرت بالرغبة في معرفة بلدي. وُلدت وترعرعت في المغرب، وذهبت إلى فرنسا للدراسة. جعلتني جولتي العالمية أدرك أنّي أريد العودة إلى المغرب، والتعرّف إليه بعينيّ شخصٍ رأى بلداناً أخرى. عدتُ عام 2005، وأنشأتُ هيكلاً إنتاجياً لفائدة مقاولة فرنسية. ولأنّي عقلانية، أردت القيام بالأشياء بحرصٍ واهتمام كبيرين.
لم أكن أعرف كيف سأجد الأمور في المغرب، اجتماعياً، نظراً إلى أنّ والديَّ محافِظان. لم أكن أعرف ما إذا كانا سيقبلان أنْ أعيش بحرّيةٍ. وفي الوقت نفسه، لديّ تطلّعات كبيرة في ما يتعلّق بما كنت أتوقعه من نفسي، وما أريد تجربته في مستقبلي المهني.
لكنْ، قبل كلّ شيء، لم أرغب في أنْ أفقد حرّيتي. في الواقع، كان الاستقبال مُرحِّباً بي، بشكل استثنائي. أول شخص قابلته هو نور الدين لخماري، الذي قال لي إنّه "شيءٌ رائعٌ أنْ تأتي إلى المغرب، لأنّنا بحاجة ملحّة إلى منتجين".
(*) الطاقة المعدية التي نعرفها عن نور الدين لخماري.
نعم. قال لي، عام 2009: "ستصبحين أهمّ منتجة في المغرب". عام 2005، لم أفعل شيئاً باستثناء 3 أفلام قصيرة، تَعيّن إنتاجها للحصول على الرخصة. أنجزتها مع لمياء الناجي، الفنانة المصوّرة، وأمين بنيس، الرسام التشكيلي، وشاب آخر صنع معي فيلمه القصير الأول. كنّا سعداء للغاية، لأنّ الأفلام انتُقيت في "المهرجان الوطني بطنجة"، وفازت بجوائز. كانت تلك أول علاقة لي مع المغرب. اكتشفت هناك السينما المغربية، وكان الميدان مرحِّباً بي بشكل غير عادي.
انطلاقاً من هذه النقطة، بدأت الاستقرار. تركت الشركة الفرنسية Irène، التي كنت أعمل معها في الإنتاج التنفيذي، وبدأت إنجاز مشاريع شخصية. قابلت نرجس النجار، التي شجعتني كثيراً بدورها. أنشأت شركتي "La Prod" عام 2007. منذ ذلك الحين، كلّ ما حدث بديهيّ إلى حدّ ما: السينما، مُرافقة الكتابة، المُتعة التي أجدها في العمل مع المخرجين، تحفيز رغبتهم في المضي قُدماً. هذا ما أحبّه فعلياً. اللحظة التي نُخرج فيها مشروعاً إلى الوجود، فأساعد المخرجين على تخيّل الأشياء إلى الأبعد، وتحسينها في كل مرّة.
(*) مُدهشٌ أنّ الشعور بالالتزام موجودٌ لديك منذ طفولتك.
منذ الطفولة، استوعبت القوة الناعمة للصّورة. تحضرني ذكرى مروّعة، حين كنت في إجازة في أحد المخيمات، وكانت هناك فتاة بعمري تقريباً، بالكاد 8 أعوام، تقوم بأشغال التنظيف لدى إحدى العائلات. كانت تبكي، وجسدها مليء بالكدمات. شعرت بتعاطف معها، دفعني إلى البكاء بشدّة أيضاً، وفهمت أنّ ما حدث ليس طبيعياً. يحتاج الأشخاص الذين تسبّبوا في هذا إلى فهم أنّ هناك شيئاً غير طبيعي في سلوكهم، وإذا لم يستوعبوا ذلك من الداخل، فإنّ هناك مشكلة حقيقية. لذلك، اعتبرتُ أنّ من واجبي، وواجب الجميع، المُساهمة في تغيير العقليات.
(*) لماذا تخصّصتِ في سينما المؤلف وليس السينما السائدة؟ حتّى أنّك تتحدّثين كثيراً عن السينما المستقلة. لماذا هذا الاختيار من البداية؟
بالنسبة إليّ، بدا الأمر بديهياً، أنْ أعمل مع مخرجين مؤلفين، لديهم وجهة نظر ورؤية. بغض النظر عن الموضوع الذي نتطرّق إليه، نتناوله من خلال عينيّ المخرج وحساسيته. فيلم المؤلف، بالنسبة إليّ، رغبةٌ تأخذك من أحشائك، وتجعلك بحاجة إلى سرد شيء ما بطريقة معينة. ما يهمّني عمق الطرح، وهذا يُحيل إلى نوعٍ من العلاج الفردي. عندما تصنع فيلم مؤلّف، تحتاج غالباً إلى التعامل مع الموضوع انطلاقاً من وجهة نظر، وليس بطريقة سطحية ومصطنعة. أخذت التزامي في سنّ باكرة جداً، وجاءت السينما كامتدادٍ للأشياء.
ما يهمّني حقاً التنديد والتمرّد وطرح الأفكار وتداولها وطرحها للنقاش. سينما المؤلف كلّ هذا. فرصةٌ لمنح الجمهور لحظة تفكير. عندما نكون أمام شخص ما، نرغب في سماعه وفهمه، ومحاولة فتح نقاش معه. فيلم المؤلف يسمح بذلك: فتح نقاش. الجمهور في هذا التصوّر ليس كائناً هلامياً يكتفي بالتلقي، بل نطلب منه نوعاً من الاستجابة. نحثّ الشخص الذي يشاهد الفيلم على أنْ يحسّ به، ويسعى بدوره إلى تكوين خطاب حوله، والاستمرار في التفكير به بعد عودته إلى بيته.
(*) أن يستمرّ الفيلم في العيش في المُشاهد.
قطعاً. أنا مهتمّة جداً بالسينما التي تتوجّه إلى الجمهور العريض. حسناً، ما عدا الأفلام التي يصعب مشاهدتها لأكثر من 5 دقائق، أحبّ السينما الرائجة، وأعتقد أنها يجب أنْ تستمر في الوجود. لكن هذين إحساسان بالسينما، يختلف أحدهما عن الآخر. تسعدني أكثر رؤية سينما المؤلف، لأنها تجعلني موجودة كشخص وإحساس، وتمنحني الفرصة للتفكير والخروج من القاعة أقلّ غباءً مما كنت عند دخولها، مع وجهة نظر إضافية تُغنيني، كما لو قابلت شخصاً، واختبرت إحساسه بالأشياء. عندما تشاهد فيلم مؤلف، يكون لديك دائماً انطباع أنّك التقيت شخصاً مثيراً للاهتمام، وعرفته عن قرب.
(*) أريد العودة إلى السينما المستقلة، لأنها مصطلح ملتبس يستحضر الاستقلال عن السينما السائدة. لكن الوضع في المغرب مُشوّه للغاية، بسبب قلّة صالات العرض، ما يجعل المنظومة تعتمد أساساً على صندوق الدعم، الذي يمثّل إلى حدّ كبير رؤية الدولة.
صُمّمت السينما المستقلة في الأصل لمواجهة سينما الاستديوهات الكبرى، التي كانت تتبنّى مقاربة إنتاجية صرفة. عندما اقتنع بعض المخرجين بأنّهم لا يستطيعون ولوج الاستديوهات لإنجاز ما يحبّونه، قرّروا صنع أفلام من دون أموالها، مُقتنعين بأنّ المموّلين ليسوا هم من ينبغي أنْ يُقرّروا في مواضيعهم وما يصنعونه، قائلين: "أنا من يُحدّد موضوع فيلمي وشكله، وسأتمكّن من القيام بذلك بالمال الذي أستطيع جمعه".
لذا، من المُعقّد قليلاً أنْ نرى الأمور من هذا المنظور في المغرب، لأننا لا نتوفّر على استديوهات كبرى تُموّل الإنتاجات الضخمة. لكنْ، أعتقد أن هذا هو السبب في أنّي أضع المصطلحين جنباً إلى جنب، أي الأفلام المستقلة وأفلام المؤلف: غالبية الأفلام الـ30 التي أنتجتها إلى اليوم مُشكّلةٌ من أفلامٍ انخرطت فيها من دون الحصول على دعم التسبيق على المداخيل.
هذه أفلام أردت المشاركة فيها بحرية، لأنّ ما أثار اهتمامي طرحها المستعجل نوعاً ما، وحاجتها الملحّة إلى الإنتاج. كان الهدف إمداد الطّاقة إلى شيءٍ يشعر المؤلّف بالحاجة إلى الصّراخ به وقوله. عندما صنعت "فيلم" مع محمد أشاور، أو "البحر من ورائكم" و"الجاهلية" مع هشام العسري، أو "المحطّة الأخيرة للملائكة" (فيلم جماعي ـ المُحرِّر)، لم أفعل ذلك مع تسبيق على المداخيل. تمكّنت تلقائياً من العثور على التمويل، مع ضمان ألا يتدخّل المموّل في سيناريو الفيلم.
هنا، يأتي مفهوم الاستقلالية. أي أنّي لا أريد أن يناقش أي شخص سيناريو فيلمي، ليُقرّر ما إذا كان سيصرف المال أم لا، لأنّ خطاب الفيلم وشكله مُهمَّيْن للغاية، ويجب أنْ يظلّا رهن حرّية تامّة.
(*) في ما يتعلّق بمدى تدخّلكِ في إنجاز الفيلم، هناك مدارس ومقاربات عدّة في هذا الاتجاه. ما هو النهج الذي تتّبعينه؟ المشاركة في المراحل كلّها، أو فقط في صوغ النسخة النهائية للسيناريو؟ وإلى أي حدٍّ تنخرطين أيضاً في التصوير والمونتاج؟
حسناً. يتمثّل دوري في ما يسميه الأميركيون "منتجاً إبداعياً" (Creative Producer ـ المُحرّر)، الذي يكاد يكون معادلاً للمخرج. هذا يعني أنّي أعمل مع المخرج على السيناريو، من دون أنْ أكتب فعلياً. أنا لا أكتب أبداً. نعمل ساعات طويلة على الفكرة، لتطويرها. من جهة ثانية، نظراً إلى أنّه مشروعي، وأنّي أعرف كيف أدافع عنه جيداً، أقدّم الفيلم للجهات المانحة، للحصول على التمويل. بعد ذلك، لا أتخلّى عن المشروع أبداً. أنا حاضرة في التصوير والمونتاج. لا يوجد فيلمٌ واحد تقريباً لم أكن فيه وراء شاشة الـ"كومبو"، جنباً إلى جنب مع المخرج. يحدث أيضاً أنْ أطلب الذهاب إلى أبعد ممّا صُوّر، أو القيام بمحاولة أخرى.
(*) وماذا عن المونتاج؟
لا أكون موجودة أثناءه طوال الوقت، لكنّي أحضر عند الانتهاء من أيّ نسخةٍ من الفيلم. لا أريد أنْ أكون هناك، لأنْ لا جدوى من وجودي، بينما يقوم المونتير والمخرج بعملية التوليف. من ناحية أخرى، أكون موجودة في كل مرة نحتاج فيها إلى عرض نسخة، ويتعيّن علينا اتخاذ قرارٍ للمضي قُدماً. لذلك، بالنسبة إلى الأفلام كلّها، حتّى الوثائقية منها، قمت بزيارة واحدة على الأقلّ أثناء المونتاج. ذهبت إلى فرنسا لمشاهدة الفيلم الأخير لسيمون بيتّون مثلاً، مع أنّ سيمون من المخرجين الذين لا يُمكنك إبداء ملاحظات كثيرة حول أعمالهم (تبتسم). الشيء نفسه بالنسبة إلى فيلم محمد العبّودي ("مدرسة الأمل" ـ المُحرّر)، ذهبت إلى باريس لإبداء رأيي في النسخة المعدّلة.
بالنسبة إلي، مهمّ جداً أنْ أكون حاضرةً منذ مبادرة الفكرة حتى اللحظة التي نتشارك فيها الفيلم في المهرجانات والصالات.
(*) وكيف تتلافين تجاوز الخيط الرفيع بين صلاحيات "المنتج الإبداعي" واقتحام اختصاصات المخرج؟
الأمر بسيط للغاية: أنا أعمل لصالح المخرج. عندما أصنع فيلماً مع شخص ما، فلأنّي أحترم رؤيته وتصوّره وأفكاره. ما يهمّني أنْ أذهب إلى أعماق أفكاره، وليس أفكاري. ننجح غالباً في إيجاد حلّ وسط. فيلم محسن بصري "طفح الكيل"، مثلاً: كان طريفاً للغاية كيف أنّ نوعاً من الازدواجية طبعت علاقتنا بالشخصيات. كانت هناك شخصيات معيّنة وجد كلّ منا نفسه فيها: أنا تماهيت مع الطبيب، الذي درس في الخارج، ويريد تغيير كلّ شيء، ويعتقد أن لدى كلٍّ منّا الفرصة للمساهمة في التغيير قدر استطاعته، كما في حكاية الطائر الطّنان مع حريق الغابة؛ ومحسن الذي يشبه الشاب القائل إنّ كلّ شيءٍ محسوم سلفاً، ولا شيء يمكن فعله، ولا يتبقّى سوى القفز من فوق قنطرة على الطريق السريعة.