"لعزيب": إعادة تصوّر الصحراء برؤية نسوية عضوية

12 ديسمبر 2022
"لعزيب": النساء مرايا بيئة وحياة وروح (الملف الصحافي)
+ الخط -

فيلمٌ وثائقيّ يصوّر الصحراء بعيون ثلاث نساء (أخوات تتراوح أعمارهنّ بين الكهولة والشيخوخة)، فضّلن حياة الرعي على حياة المدينة. يبدو، من الوهلة الأولى، أنّ جواد بابيلي لم يسلك طريق السهولة، في مقاربة فيلمه الطويل الأول "لعزيب" (مرعى مؤقّت للماشية)، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ22 (16 ـ 24 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، وفي المسابقة الرسمية للدورة الـ33 (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"أيام قرطاج السينمائية".

أولاً، لأنّ الصحراء ترسّخت في الأذهان كفضاء رجولي، لقساوتها وخطورة عبورها، ولأنّ تقسيم المهام، المعتاد في البادية، يقتضي أنْ يتكلّف الرجال بالرعي، بينما تنبري النساء لأشغال البيت. يتّضح موقف التفضيل، أو الاختيار المهمّ، منذ مقدّمة الفيلم، من خلال كلام الأخت الصغيرة، التي تتحدّث عن الصحراء باعتبارها هوية، تجعلها وأختيها يستمتعن بما يعتبره الآخرون مِحَناً. ولعلّ نطقها الكلمة، في مقام أوسط بين الهواية والهوية، يقول كلّ شيء عن هذا الرابط الخاص، الذي يجمع الصحراويين بفضاء عيشهم، والذي دفع المخرج إلى السعي إلى القبض عليه، رغم طابعه المنفلت أو الملتبس في تعبيره، خاصة أنّ بابيلي أمضى جزءاً من طفولته بالفقيه بن صالح (وسط المغرب)، قبل التحاقه بعائلته في الداخلة.

بعيداً عن الفكرة المسكوكة، التي تعتبر الفضاء شخصيةً قائمة بحدّ ذاتها، تلعب الصحراء، في "لعزيب"، دوراً أساسياً، حتى تكاد تصبح الشخصية الرئيسية. تجنّب المخرج تعريف الأخوات بأسمائهن (نتذكّر رائعة وانغ بينغ "3 أخوات"، 2012)، بينما ظلّت الكبرى، التي تقاسي المرض، خارج حقل الحكاية. ساهمت عادةُ وضع النقاب الصحراوي في تعزيز طابع الغموض، وعدم التركيز على شخصية نسوية بحدّ ذاتها، بل على فكرة المرأة نفسها، وسط الصحراء، باعتبار هذه الأخيرة وسطاً متطرّفاً في قساوته، يُخرج بطبيعته الأشياء عن تصوّرها الأول، فيكاد يصبح لكلّ شيء معنىً جديداً، لأنّ رابط الإنسان معه يتغيّر جذرياً. فلا الهاتف النقّال هو نفسه عندما نراه في أيدي الأختين، في خيمةٍ في أقاصي الفلاة؛ ولا تصوّر فكرة الموت هو نفسه كما في الحاضرة. بالتالي، تضطلع ملَكة إعادة الترتيب، التي تُعدّ من ركائز السينما (بالإضافة إلى المسافة والإيقاع)، بأهمية خاصة هنا، من خلال أسلوب المخرج، المتّسم بتأمّل عناصر الطبيعة والمناوبة بين لحظات الفوضى والتناغم، ومفعولهما على المعيش اليومي الرتيب للأختين.

هكذا، يتحوّل مشهد ليلي عادي لتحضير وجبة لحمٍ مشوي على النار إلى ما يشبه ملحمة، حين تلتقط الكاميرا (مدير التصوير التونسي الموهوب أمين المسعدي) محاولات الأختين منع الرّمل من الالتصاق باللحم، وحماية الخيمة من الشرر المتطاير، بلقطة ثابتة طويلة (نحو 5 دقائق)، وإضاءة نارية طبيعية، تؤجّج اختلاجاتها الرياح القوية، مُحوّلةً المشهد إلى لوحة تعبيرية خالصة، بينما يصدح عواء ابن آوى من خارج الحقل، مُسعّراً التوتّر، ومضفياً على الأجواء مسحة خطر تحيل إلى عوالم الوسترن.

 

 

يبقى سقم الأخت الكبرى، كما خطر ابن آوى على الماشية، باعتبارهما هاجسي الفيلم ورهانيه الرئيسيّين، خارج حقل الحكاية. ما يمنحهما وقعاً أكبر على المشاهد، خاصة أنّ الأول محور إحدى اللحظات القليلة، التي نسمع فيها صوت الأخت الوسطى مُتحدّثةً عن أثر انشغالها بصحّة أختها، والرعب الذي تشكّله لها فكرة موتها، فيما يشكّل الحديث عن خطر ابن آوى، وصعوبة حراسة القطيع في الليل، المقطع الوحيد الذي تستحضران فيه نشاط الرّعي.

"لعزيب" فيلم نسوي أيضاً، من خلال كلام الأخت الصغرى عن زيجاتها الأربع، وتملّكها قرار الزواج من عدمه، باعتبار كثرة من يطلبون ودّها، بل يتجاوزه إلى إعادة تصوّر الصحراء نفسها بعيون النساء، لإخراجها من طابع الكليشيهات المتداولة في أفلام الفضاء الحساني.

هنا، تشرب النساء حليباً معلّباً، بدلاً من إعدادهنّ الشاي الصحراوي؛ ويلعبن بالأزلام (لعبة "السيك" الشعبية لدى النساء أكثر من الرجال في الصحراء)، بدلاً من أن يشقين في أشغال المنزل/الخيمة، ويتسامرن حول علاقة التعاويذ الدينية بلسعات العقارب، بدلاً من أنْ يشتكين من مشاكلهن مع الرجال. كتب إبراهيم الكوني في "البئر"، الحركة الأولى في رباعية "الخسوف" (1989): "إنّ المرأة، مثل هذه الصحراء، التي تمتدّ أمامك إلى الأبد. تبدو قاحلة، قاسية، باعثةً على اليأس، ولكنّ أعماقها تخفي سحراً وكنوزاً وحياة، واكتشافها يحتاج إلى الصبر والخبرة".

هناك مشهد يشكّل ذروة "لعزيب"، شكلاً ومضموناً، يُفصِح عن جانب من علاقة المرأة الصحراوية مع النفوذ الرجالي، بطريقة فنية صرفة، من خلال عرض مسرحي، مُرتَجَل وصغير، لدميةٍ على هيئة رجلٍ، تحرّكها الأخت الوسطى برجليها ببراعة، مع إيقاع عزف الأخت الصغرى على الطبل، فيختلّ، على إثره، توازن الفيلم، مُفسحاً عن ثغرة تتسلّل من خلالها لقطة تخييلية محضة، غاية في الروعة، بطابعها الكابوسي، وموسيقاها القاضّة، المُحيلة إلى أفلام الرعب، نرى فيها هواجس الموت ترقص كشبحٍ تَشكَّل في صورة ابن آوى.

على غرار جوهرة أخرى، شاركت في المسابقة الرسمية لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، بعنوان "صرّة الصيف" لسالم بلّال، يُشكّل "لعزيب" استثناءً ـ في مجموعة أفلامٍ مُنجزة في إطار صندوق دعم إنتاج الأفلام الوثائقية ـ عن الثقافة الحسانية والصحراوية، التي لم تترك غالبيتها العظمى أيّ تأثير يُذكر، أو أثراً في المهرجانات في المغرب وخارجه. لكنهما يوضحان بتميّزهما، ربما، الطريق لمن أراد التأمّل في طبيعتهما، المنفلتة من قيود السيناريو، المفصّل والمُعدّ سلفاً، للالتحام بحقيقة الميدان، والنهل من إلهام الواقع، وابتعادهما عن مقاربتي الأطروحة والديداكتيكية، اللتين تطبعان كثيراً ممّا يُكتب لنيل الدعم.

المساهمون