لحظات خالدة... البطولة في مشاهد أيقونية

10 ديسمبر 2022
تمثال برونزي لعادل عبد الصمد يجسّد نطحة زيدان الشهيرة (كنزو تريبويار/فرانس برس)
+ الخط -

تستدعي بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في قطر ذكريات وماضياً تطفو عليه أكثر اللحظات أيقونية في تاريخ البطولة. توفر تلك اللحظات مساراً لسرديات مختلفة، مختزلةً كثيراً من مشاعر الفرح والحزن. تمثل تلك اللحظات، أيضاً، مصدراً لمعالجات فنية، تنوعت بين النحت والفنون الهامشية، كالملصقات، لتنقل لقطات ووقائع تاريخية حدثت في كأس العالم. وعلى القماشة العشبية، يتشكل مسرح لعروض كرة القدم. تارة تكون هذ العروض مملة، وأحياناً تفرش طريقاً لعروض كرة القدم الأكثر سحراً، لتغدو بمثابة رقصات باليه، تتخللها لمسات بهلوانية، ولحظات خادعة، وأخرى دامية، يصبغها حسّ درامي.

لا تخلّد ذاكرة كرة القدم طعم الفوز، رغم أنه المجد الذي تنتهي به اللعبة، لكنها تبقي تلك اللحظات المشحونة بالعاطفة والجدل. في ألمانيا 2006، حازت إيطاليا الكأس الغالية. لكن ما نتذكره من تلك المباراة، نطحة النجم الفرنسي زين الدين زيدان للمدافع الإيطالي ماركو ماتيراتزي. فازت إيطاليا، لكن العالم، حتى اليوم، لا يزال يتحدث عن نطحة زيدان. وبعمل هو الأكثر جرأة باستلهامه أحداث كأس العالم، جسد الفنان الفرنسي، عادل عبد الصمد، الذي تجمعه بزيدان جذور جزائرية مشتركة، تلك النطحة بتمثال يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار. نفس الرأس الذي ضرب الكرة مرتين ليعلن مجد فرنسا الأول في بطولة كأس العالم 1998، في شباك البرازيل، يبقى ممجداً بالبرونز، مجسداً لحظة مثلت عاصفة درامية. لم يسجل البث المباشر النطحة، وكان من الممكن أن تسقط في الهامش، لولا الاستعانة بتقنية الإعادة، لنرى زيدان ينفذ رأسية في صدر اللاعب، في الدقيقة 110، بعد انتهاء الوقت الأصلي بالتعادل بهدف لمثله بين الفريقين، واحتساب شوطين إضافيين. حتى حكم الساحة لم ير النطحة، واستعان بالحكم الرابع، ليعلن طرد زيدان. وفي ركلات الترجيح انتصرت إيطاليا. خرج زيدان مطروداً، من دون أن يلقي نظرة إلى الكأس التي كان يتوق لرفعها للمرة الثانية بعد فوزه في 1998. هل خرج زيدان من الباب الضيق لكرة القدم؟ إذ تعرض نجم ريال مدريد لهجوم في فرنسا حمّله أسباب الهزيمة.

زين الدين زيدان بعدما نطح ماركو ماتيراتزي عام 2006 (جون ماكدوغال/فرانس برس)

لكن الأسطورة الأرجنتينية، دييغو مارادونا، اعتبر ما أقدم عليه زيدان فعلاً بطولياً، سواء في عروضه الكروية المبهرة خلال البطولة، أو في تلك النطحة، لأن ذلك ما كان سيفعله الأرجنتيني، على حد تعبيره. كرة القدم، بالنسبة لمارادونا، إنسانية وتلقائية، ذلك قبل تحويلها إلى منظومة آلية. فالمتوج ببطولة 1986، لعله أهم من جسد فكرة نيتشه عن الرجل الخارق في تاريخ كأس العالم، وما زالت عروضه في المكسيك بالنسبة لكثيرين هي الأفضل في تاريخ البطولة.

يحظى مارادونا بعدد قياسي من التماثيل. رغم أن بعضها لم يكن بتلك الجودة من الناحية الفنية، كما هو في مطار كولكتا في الهند، إذ ينتصب له تمثال بارتفاع 12 متراً حاملاً كأس العالم. حتى ذلك التمثال الأصغر في مطار أزيزا في العاصمة الأرجنتينية لم يعجب عشاقه. يذكرنا التمثال بمشهد وقوفه مردداً نشيد بلده الوطني، ضاماً قبضة يده إلى صدره. لحظة وقوفه كمحارب، ليس فقط كرياضي، بينما العالم ينتظر ما الذي سيفعله الفتى الذهبي. فعل كل شيء ليهدي بلده فخراً قومياً، لا تجلبه رياضة أخرى مثل كرة القدم. لعبة تختلط فيها الرياضة بالفن والسياسة، وما زالت علامة الفرح على وجهه بعد إعلان فوز فريقه بالكأس الذهبية، واحدة من أبرز لحظات البطولة.

تمثال لمارادونا في إيطاليا (ماركو روسي/Getty)

تلك اللحظات الخالدة التي توسمها الرسوم والملصقات، بوصفها ذكرى تجسد شغف اللعبة. على أن أبرز لحظة لمارادونا، هي حين سجّل الهدف الأول في مرمى إنكلترا بيده. قفزته بجسده القصير، بينما يده تمتد كلسان ضفدع، لتسرق هدفاً قبل أن يلتقط الحارس الإنكليزي الكرة. كانت لحظة مشحونة بالسياسة، بعد أن شنت بريطانيا حرباً على الأرجنتين لاستعادة جزر الفوكلاند. إنها قصة ثأر. بعد المباراة، قال مارادونا إنها يد الإله. قبل ثلاثة أسابيع من انطلاق كأس العالم في قطر، احتفل الأرجنتينيون بعيد ميلاد مارادونا الثاني والستين، كواحد من أعظم فناني اللعبة، وأيضاً كمحارب، بينما صورته تزين بعض جدران بيونس آيرس بألوان بلده.

قال مارادونا إن "يد الإله" سجلت الهدف (Getty)

ما زالت الفنون أقل انغماساً وجدية بمواضيع كرة القدم وبطولته الأبرز، كأس العالم. غير أن هناك جانباً سردياً، تنتزعه الملصقات التي تستعيد أكثر لحظات المونديال أيقونية. بعد يد الإله تلك، يثبت مارادونا براعته التي لا غبار عليها، منطلقاً بالكرة من منتصف الملعب مراوغاً نصف لاعبي إنكلترا وحارسهم. أخيراً، يسدد مارادونا الكرة في المرمى، معلناً عن إحرازه هدف القرن. تلك الصورة كافية لنستعيد المشهد كواحدة من علامات البطولة غير المنسية.

لحظات أخرى تأخذ نفس الحيز. دينيس بيركامب بالفانيلة البرتقالية، وهو يسجل في مرمى الأرجنتين في ربع نهائي مونديال 1998. واحد من أفضل مشاهد ترويض لاعب للكرة. يكتب تاريخ الرقص، من تلك العروض المبتكرة، بوصفها ترويضاً لحركة الجسد.

بيركامب يسجل في مرمى الأرجنتين عام 1998 (مارك ليتش/Getty)

في مسرح كرة القدم، يتخلّق الابتكار خلال اللعبة، حركة الأسطورة الهولندية يوهان كرويف الماكرة وهو يلتف بجسده ويضرب الكرة بكعب قدمه، مخادعاً المدافع السويدي في أول ظهور له في مونديال ألمانيا 1974. كانت كرة القدم تحظى بعرض مبتكر، يتفتح كزهر التوليب الهولندي. كان كرويف رمزاً لحقبة جديدة في كرة القدم، تلت فترة أبهر فيها الأسطورة البرازيلية بيليه عشاق الكرة. سيطلق عليه العالم لقب الجوهرة السوداء، في لحظة كانت العنصرية لا تزال مشكلة جوهرية.

كرويف في مونديال ألمانيا 1974 (Getty)

إضافة إلى الملاكم الأميركي محمد علي كلاي، كان بيليه يعيد الاعتبار لشريحة إنسانية تتعرض للاضطهاد والعنصرية. وبين تلك الوسوم، يظهر بيليه محتفلاً بهدفه ضد إيطاليا في نهائي المكسيك 1970، بفوزه ثلاث مرات بكأس العالم. ما زال بيليه اللاعب الوحيد الذي يحمل الرقم القياسي للتتويج بكأس العالم؛ ثلاث مرات. وفي ذلك النهائي، فازت البرازيل واحتفظت بكأس جون ريميه. لكن قصته تعود إلى قبل ذلك. كان في العاشرة من عمره، حين شاهده والده يبكي إثر خسارة بلاده على أرضها نهائي 1950 الشهير، أمام جارتها أوروغواي، ووعده بتحقيق كأس العالم. كانت أوروغواي الأصغر مساحة، والأقل سكاناً، تتباهى بتحقيق بطولتين. واحتاجت البرازيل إلى أمرين؛ تغيير لون قميصها من الأبيض إلى الأصفر، وكذلك إلى جيل رهيب أعادت به الاعتبار لذاتها المجروحة في الماركانا. بينما لا يزال "الجوهرة السوداء"، بيليه، يوسم لحظة مبهرة في كأس العالم.

بيليه حاملاً الكأس عام 1970 (Getty)

في السبعينيات، وما بعد ذلك، سيتغير كثير من ملامح اللعبة، إذ أصبحت أيضاً مكاناً لاستعراض تسريحات الشعر. يقف النجوم كما لو أنهم نجوم فرقة موسيقية، لكنهم مقاتلون من نوع آخر. حركة أقدامهم تتوافق مع أسلوب رقصات الديسكو والفانك، من سراويل الشارلستون الضيقة على السيقان والواسعة من أسفل. ما زال هذا العرض قائماً، وإن أصبحت الكرة أكثر تنظيماً باعتمادها على الخطط والتكتيكات. اعتمد "أسطورة برازيلية أخرى" على قصة شعر غريبة في مونديال 2002، كطُعم يلهي عبره الإعلام، حتى لا يتناولوا عودته من الإصابة، ويكفي ظهوره بتلك القَصة لتجسيد المونديال الذي أقيم في كوريا واليابان.

نستعيد، أيضاً، لحظة كانت ذات طابع تراجيدي، من نهائي 1994 في الولايات المتحدة الأميركية. تحديداً، عندما تقدّم النجم الإيطالي، روبرتو باجيو، لتسديد الركلة التي يمكنها إنعاش آمال الإيطاليين، ذهبت الكرة بعيداً فوق العارضة. وقف باجيو منكساً رأسه، محاطاً بحزن إيطالي وفرح برازيلي. كثير من الطليان لم يسامحوه. أحدهم كتب أن سقراط مات مسموماً، ونيتشه مات مجنوناً، بينما باجيو مات واقفاً. وآخر كتب على جدار الفاتيكان أن الرب سيعفو عن جميع البشر باستثناء باجيو. ثالث قال بألم: "كنت لأقتل نفسي يومها من دون أن أشعر بشيء". وما زال وقوفه بعد إهداره الركلة، بشعره الطويل المموج والمربوط بطريقة ذيل الحصان، ورأسه المنكس، واحدة من أبرز لحظات كأس العالم. لحظة كثيفة في تعبيرها عن الجانب المأساوي في كرة القدم. لكن الطليان كانوا أقل جرأة في تجسيدها، ولعلهم أرادوا محوها من غبار ذاكرتهم. لكن، ها هي إيطاليا تعجز للمرة الثانية عن التأهل لكأس العالم، وغابت عن المونديال القطري.

روبرتو باجيو في مونديال 1994 (بِن رادفورد/Getty)
المساهمون