لا يخلو شهر من فضيحة تتعلق بالعملات الرقميّة؛ قراصنة ومحتالون وجماعات خفية تسرق وتنهب ما يعادل ملايين الدولارات، فالسوق الجديد لم يُقنّن بعد، وأصبح مرتعاً لعمليات الاحتيال، خصوصاً أن آلية عمله غامضة بعض الشيء بالنسبة للسلطات التي يحاول هذا السوق رفض قوّتها. الأمر أشبه بالمشي في حقل ألغام، كل خطوة تحوي مخاطرة، كل استثمار مهدد بالتلاشي. والأهم، أن نسيان العبارة السرية للولوج إلى المحفظة الرقمية، يمثّل خسارة مؤكدة من المستحيل تجاوزها.
بثت منصة نتفليكس، أخيراً، وثائقياً بعنوان "لا تثقوا بأحد: مطاردة ملك العملات الرقميّة" (Trust No One: The Hunt for the Crypto King). نتعرف في العمل إلى الشاب الكندي جيري كوتِن، مؤسس شركة QuadrigaCX، الذي رحل عام 2018 فجأة في الهند. المثير أنه مات واختفت معه 250 مليون دولار من أموال المستثمرين، أولئك الذين نتعرف إلى بعضهم في الوثائقي، ونكتشف كيف دُمرت حياتهم بسبب جيري.
نتعرف، أيضاً، إلى بعض الضحايا، ثم كيف بدأوا بالتواصل بعضهم مع بعض عبر حسابات التواصل الاجتماعي، ورصد خيوط المؤامرة، ثم مخاطبتهم لأحد العاملين السابقين في الشركة (بالطبع لا نعرف من هو)، ليؤكد لهم أن الأمر بأكمله خدعة، وأن جيري حيّ وهرب بالنقود. في حين أن النظرية الأخرى حول ما حصل تتمحور حول صديقة جيري، التي افترى عليها الضحايا بأنها قتلته، كونها الوحيدة التي شاهدت جثته أثناء دفنه.
اللافت في الوثائقي أنه يؤكد ضرورة اتباع الحكمة المرتبطة بالتعامل مع العملات الرقميّة، الحكمة التي سُمّي الفيلم تبعاً لها، "لا تثقوا بأحد"، كون تداول العملات الرقميّة يرتبط بالشخص نفسه فقط، والثقة بأي مؤسسة أو جماعة أو فرد، من دون معرفة آلية عملهم بدقة يفتح المجال أمام الاحتيال؛ إذ يكفي أن يختفي الشخص الذي نثق به، حتى تتلاشى الأموال من دون عودة.
بعض المستخدمين والمستثمرين المحترفين، كالشخص المقنّع في الفيلم، انطلت عليهم الحيلة، كون جيري كوتِن لم يكن يسرق فقط، بل يكذب على المستثمرين أنفسهم، ويزوّر أصول التعاملات، إلى أن وصل إلى مكان لم يعد باستطاعته تحويل الأموال لأصحابها، ناهيك عن استفادته من تقلبات السوق ليغطي الخسائر والأكاذيب التي بناها. كما أن الشركة نفسها نالت اعتماداً من قبل هيئة غسل الأموال الكنديّة، أي هي مؤسسة مشرعنة من قبل الدولة، و"الثقة" بها عالية، لكن الواضح أنه في عالم العملات الرقميّة يمكن لأي أحد أن يصبح محتالاً أمام كم النقود الهائل.
يكشف الوثائقي أيضاً أن جيري كوتِن شرير، أي لم تخطر على باله الخدعة فجأة، بل له تاريخ في النصب والاحتيال. لكن ليس هذا هو المرعب في الموضوع؛ فعادة ما يكون هذا النوع من الوثائقيات والجرائم المرتبطة بها "بعيدة" عنا، ونظن أنه من المستحيل أن نقع في خدعة كهذه؛ إذ نلوم الضحية دوماً على أخطائها. لكن في حالة العملات الرقميّة، كثيرون يستثمرون عبر وسطاء وتطبيقات وبرامج، يمكن أن يقوم أصحابها والقائمون عليها بالشيء ذاته، أي الاختفاء مع الملايين من دون القدرة على تتبع أثرهم. الأمر مشابه لبياناتنا التي نشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي، نحن حرفياً لا نعرف مصيرها، لكن ألم نكتشف كم الضرر الذي ارتكبه فيسبوك إثر تفريطه بهذه البيانات؟ ألا يمكن لأحد آخر، مثلاً، أن يغلق المحفظة الاستثمارية التي تحوي عملاتنا الرقميّة ثم الاختفاء؟
أكثر ما أثار ضجة بخصوص الفيلم، لا يتعلق أبداً بموضوعه ولا الجريمة التي يتناولها، ولا اختفاء جيري الغريب، بل صوت إشعارات الرسائل التي تتكرر بشكل كبير في خلفية الفيلم، و"أثارت جنون البعض"، ظناً منهم أن هواتفهم هي التي تصدر هذا الصوت المتكرر.
أعدنا مشاهدة أجزاء من الفيلم، ولم نرصد هذا الصوت، ربما النسخة مختلفة حسب البلد، أو أصلحت نتفليكس الأمر. لكن لو افترضنا وجودها لكنا أمام "طرفة" سينمائية مرعبة كأن أحدهم، وبينما نحن نشاهد، يتواصل مع القراصنة، لاختراق حساباتنا وسرقة ما نمتلكه من فتات العملات الرقمية ليهرب بها.