"ممنوع الاقتراب والتصوير". عبارة يعرفها السوريون جيداً ولن تمحى من ذاكرتهم، إذ كانوا يقرؤونها دائماً على اللافتات الكثيرة المنتشرة في الشوارع السورية، التي كان عناصر الأمن فيها يظهرون دائماً بشكل مفاجئ ليقمعوا أي شخص يحمل كاميرا. فما يحدث في الشارع السوري يجب أن يبقى مكتوماً، ليحتكر الإعلام الرسمي المشهد ويقدم رواية منفردة عن حياة الناس في الشارع، لا تتسرب إلى الشاشة سوى عبر اللقاءات الخاطفة التي تنقل الأمنيات المتشابهة في الأعياد، وعبر مشاهد الجموع في المسيرات، التي تردد صرخات الطاعة في الشعارات الجوفاء الجاهزة.
هكذا تربى السوريون على الخوف قبل "يوتيوب"، وقبل انتشار كاميرات الهواتف المحمولة التي بات يستحيل ضبطها. هذا الخوف ترك أثراً واضحاً على المحتوى الذي قدمه صانعو محتوى "يوتيوب" السوريون في السنوات الأخيرة في شوارع المدن السورية، إذ كان بمجمله محتوى ترفيهياً أو سياحياً، لا يتجرأ إطلاقاً على نقل هموم الشارع ومعاناته. اعتدنا على مشاهدة "يوتيوبرز" وهم يتجولون في شوارع بلدهم كالسياح، ويدخلون إلى المحلات التجارية وينبهرون برخص الأسعار التي تكتب على الشاشة بالدولار، من دون اكتراث بأن كل ما في السوق لا يتناسب مع قدرة العامل السوري الشرائية.
وفي هذا السياق الباهت يجب أن نقرأ سلسلة "كيف الشعب السوري عايش؟"، التي يقدمها وارف؛ صاحب قناة "ديالا ووارف" على "يوتيوب" التي بدأت عام 2019 بتقديم فيديوهات بصبغة سياحية متوافقة مع السياق العام، وجاءت فيها هذه السلسلة لتحدث طفرة. يبدو أن وارف يغرد خارج السرب تماماً، ويستثمر قناته على "يوتيوب" لينقل معاناة الشعب السوري الحقيقية بصورة بانورامية، لم يسبق أن التقطتها أي كاميرا.
تتلخص فكرة البرنامج بكونه تجربة اجتماعية مصورة يخوضها وارف، بهدف اختبار حياة السوريين من أكثر من منظور؛ ففي كل حلقة يقوم وارف بتجربة العمل ليوم واحد بمهنة مختلفة، ليصور المعاناة اليومية التي يعيشها كل مواطن سوري لتأمين لقمة عيشه، وغالباً لا يكفي ما يجنيه السوريون حتى لسد رمق الجوع. تنوعت المهن التي مارسها وارف في الحلقات الـ 14 التي صدرت من السلسلة حتى اليوم، ليعمل أجيراً في المطاعم والفنادق والمتاجر وكراجات السيارات، وليستثمر بحلقات أخرى في عربات البيع المتنقلة وسيارة أجرى، وفي كل المهن نصل للنتيجة ذاتها: أن السوري لا يستطيع اليوم أن يؤمن ما يكفيه لتلبية كل احتياجاته مهما عمل، وأن التجربة الاجتماعية التي يخوضها وارف للإجابة عن السؤال "كيف الشعب السوري عايش؟"، تصور لنا فعلياً كيف يموت الشعب السوري.
لا يكتفي وارف بتصوير تفاصيل المهنة التي يمارسها، بل يذهب أبعد من ذلك، عندما يستكمل التجربة بالبحث عن تأمين مستلزمات الحياة الضرورية بأرخص التكاليف؛ فيخصص مع نهاية كل حلقة فقرة لشراء بعض المستلزمات الضرورية بالنقود التي حصل عليها من العمل، وتنتهي بعض الحلقات من دون أن يتمكن من تأمين ثمن وجبة طعام واحدة.
يبكي وارف ببعض اللحظات، لا تبدو دموعه زائفة، فهي تعبير عن العجز الذي يشعر به خلال التجربة، ويبدو شعوراً عاماً يعيشه غالبية السوريين في هذه المرحلة. وأحياناً يحث وارف المغتربين على مساعدة أقاربهم العالقين في الداخل السوري، فيقول: "لا تسأل السوري كيفك؟ ابعتلوا مية دولار بيصير منيح". وخصص حلقة كاملة لتسوق احتياجات العائلة السورية لشهر رمضان؛ التكلفة تجاوزت مليونا ونصف، في بلد لا يزال راتب الموظف فيه لا يتجاوز 100 ألف ليرة سورية، والمشكلة أن ما اشتراه وارف فعلياً بالكاد يكفي لعشرة أيام في الأحوال الطبيعية.
يكتفي وارف بتقديم صورة تعكس الواقع السوري كما هو، بلا أي أحاديث سياسية تحلل أسباب تدهور وضع السوريين، وبذلك يبدو أكثر قرباً من الشارع السوري الحقيقي الذي لم يعد يهتم سوى بإيجاد سبيل للخلاص أينما كان، ولا يعنيه إطلاقاً البحث بمسببات الجوع والألم، فانتقادها لم يعد قادراً على الشفاء، فالسوريون منكوبون من قبل أن يضربهم الزلزال.