أثار الوثائقي الإسباني "الحمض النووي لكولومبوس: أصوله الحقيقية" زوبعة لدى علماء الجينات في العالم، خصوصاً في دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ يدعي الوثائقي الذي يستند إلى "20 عاماً من التحقيق الجينيّ في رفات كولومبوس"، أن الأخير يهودي سفاردي، وليس إسبانياً، ولا إيطالياً من جنوى. إعلان يهودية "مكتشف العالم الجديد" عام 1492 يُضاف إلى الجهود الراميّة إلى إيجاد الأصول اليهوديّة التي تقوم عليها مؤسسات متعددة، ليضاف كولومبوس إلى هؤلاء.
لكن المفارقة أن نتائج الأبحاث الجينية التي جاءت في الوثائقي لم تُنشر، ولم يُنتَج بحث علمي يحققه الأقران، حسب أنتونيو ألونز، المدير السابق للمعهد الإسباني لدراسات السموم والعلوم الجنائيّة، لكن "هناك آثار تتطابق مع أصول يهودية في حمضه النووي". عبارات غامضة، نطقها الخبير في الطب الجنائي، خوسيه أنتونيو لوريت، تتزامن مع حقيقة العجز عن تحديد مكان مولد كولومبُس بدقة. هذا ملخص الموضوع: فيلم وثائقي يثبت حقيقة تاريخيّة من دون أي دليل، وعالم ينفي ادعاءات الوثائقي بسبب غياب الأدلة.
لكن الإعلان عن "حقيقة" كهذه يثير المفارقة، أولاً كون إسبانيا لم تكن ترحب باليهود حينها، فضلاً عن يهودية كولومبوس، إن كانت حقيقة أو وهماً، لا قيمة لها، أمام الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق سكان أميركا الأصليين؛ الإبادة التي دفعت كثيرين إلى تحطيم تماثيله والمطالبة بإزالتها. هنا، نتساءل: لِمَ الاحتفاء بشخص وصل من أوروبا إلى أرض لا يعرفها ولا يملكها، فقرّر قتل من فيها ثم استيطانها؟ مفارقة تاريخيّة لا تختلف عما تشهده المنطقة راهناً.
لا تمكن قراءة موضوع جدلي كهذا إلا في ظل ما تشهده الولايات المتحدة الآن، واقتراب موعد الانتخابات، والتفاني الأميركي في دعم الاحتلال الإسرائيلي، بين قتل الفلسطينيين بسرعة (دونالد ترامب) وقتلهم أبطأ وضمن قيود (كامالا هاريس)، وإعلان أن مكتشف أميركا يهودي.
تلقف الخبر جديّاً لا يضيف إلى المفارقات السابقة سوى حقيقة جهود مصادرة التاريخ، بناء على أبحاث لا يعرف حقيقتها أحد. لن تغير يهوديّة كريستوفر كولومبوس من التاريخ وواقع الإبادات الجماعية التي يمارسها المحتلون الأوروبيون أينما حطوا، ولن تغير من موقف أميركا، الذي يتجلى بتصريح قديم لنانسي بيلوسي: "إن أنهار مبنى الكابيوتول وأصبح حطاماً، أولويتنا دائماً هي تمويل إسرائيل".
وهنا يأتي هذا الاكتشاف الزائف بناء على رفات مشكوك بأمره، بوصفه ربطاً بين مولد دولة استعمارية (أميركا) ومصير دولة استعمارية أخرى (إسرائيل)، والربط الذي لا يستحي عن تكراره مثلاً رئيس وزراء ألمانيا حين يقول: "أمن إسرائيل مصلحة ألمانيّة عليا".
نعلم أن أي محاولة للنظر علمياً في هذا "الاكتشاف" وتمحيصه، أو حتى السخرية منه وانتقاده، سينتهي بتهمة "معاداة الساميّة"، ومصادرة "اليهودية". وإلى الآن، لا نعلم إن كان خبير الحمض النووي في هارفرد، ديفيد رايخ، سيُتهم بمعاداة السامية لأنه طلب الوثائق التي تدعم هذا الادعاء، علماً أنه حفيد هاربين من الهولوكوست. لا ننسى أيضاً موقف إسبانيا الناقد بشدة لإسرائيل، إذ اعترفت الأولى بالدولة الفلسطينيّة، وقرّرت المشاركة في الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. وظهور هكذا وثائقي كهذا أشبه برهان على الوتر الحساس، وتاريخ إسبانيا في معاداة السامية ومحاكم التفتيش، لكن من دون الغوص في التاريخ.
التعليق الأشد اختزالاً للموضوع هو الذي نقلته صحيفة إل باييس على لسان جوناس كراوس، مدير معهد ماكس بلانك للأنثروبولجيا التطورية: "لن أعلق على أي بحث مقدم ضمن وثائقي تلفزيوني. إن فعلت ذلك، علي أيضاً أن أعلق على الكائنات الفضائيّة، ونظرية الأرض المسطحة، وأطلنطس، والمزيد من ظواهر العلوم الزائفة".