استمع إلى الملخص
- الفيلم يروي قصة ماري، طفلة من ريف أيرلندا تسعى لتعلم الطبخ وتخوض رحلة عاطفية وروحية بعد فقدان جدتها، بمساعدة جنية تربطها بماضي عائلتها.
- يُظهر "كلب سلوقي وفتاة" مهارة دالو في خلق شخصيات مؤثرة وبناء قصة مشوقة مع رسالة عميقة عن الأسرة والنمو الشخصي، مستخدمًا جماليات بصرية تعكس الطبيعة الأيرلندية بأسلوب فني رائع.
يمتلك المخرج وكاتب السيناريو والموسيقي الإيطالي إنزو دالو مرجعية مهمة في أفلام التحريك، ويُعَدّ أحد أهمّ مخرجي هذا النوع السينمائي في أوروبا. أفلامه موزّعة في العالم، وحاصلة على نجاحات مختلفة في المهرجانات والنقد وشبّاك التذاكر. بداية النجاح مع "السهم الأزرق" (1996)، وتثبيت الموهبة مع "لاكي وزوربا" (1998)، و"مومو ينتصر على الزمن" (2001)، ثم ترسَّخ أكثر عالمياً بفضل "بينوكيو" (2012).
عام 2023، أنجز تجربة مهمّة وملهمة: "كلب سلوقي وفتاة (A Greyhound Of A Girl)"، المعروض في "الجيل" (أفلام الأطفال والشباب)، في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، والفائز بجائزة "نجمة الجونة الفضية" في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة السادسة (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي".
تعيش الطفلة ماري (ميا أوكونور) في ريف أيرلنديّ ساحر. تبلغ 12 عاماً. جريئة وحالمة وطموحة، تريد تعلّم الطبخ وإجادته، فتسعى إلى الالتحاق بمدرسة صيفية، لكنّها تفشل. تعود إلى منزلها مع جدّتها الغاضبة (روزالين لاينهان)، التي هاجمت لجنة التحكيم لرفضها التحاق حفيدتها المحبوبة بالمدرسة. وعدتها بأنها ستحاول مجدّداً في العام المقبل، وسيتمّ قبولها. أعطتها مخطوطاً قديماً، لتتعلّم منه وصفات نادرة للطعام، فتحقّق حلمها. فجأةً، تمرض الجدّة، وتُنقل إلى المستشفى. ماري لم تتقبّل أبداً أنّ جدّتها تحتضر وتُفارق الحياة، فتبدأ مرحلة صعبة. خافت والدتها سكارليت (شارون هورجران) عليها كثيراً، خاصة أنّ العلاقة بينهما قوية جداً.
في تلك اللحظة الفارقة في حياة ماري، تظهر جنّية ـ شبح، والدة جدّتها، وتقيم علاقة صداقة مع المراهقة، لمساعدتها على تقبّل رحيل الجدّة، فالفراق ركنٌ مهمّ في حياة البشر. تسافر معها الى الماضي، وتضعها في مواقف عدّة لتسهيل قبول هذا الفراق المرّ. مُعطى يجعل ماري تفهم أشياء كثيرة لم تكن تعرفها. من هنا، تأخذ القصة أبعاداً أخرى، وتقود المُشاهد إلى العوالم الساحرة للماضي، عندما كانت الجدةُ طفلةً تعيش هي أيضاً في أحد أرياف دبلن، وتمرّ بمراحل مؤلمة في حياتها، تتجاوزها بطريقة ما.
تنعكس مرجعية إنزو دالو وخبرته بوضوح في جديده. يتجلّى هذا في أصعدة مختلفة: حِرفيّته الطافحة في نحت الشخصيات وتطويرها مع كلّ حدث ومشهد، وجعلها حيوية ومفعمة بالحياة والمواقف المتناقضة والمواجهات السريعة؛ فهم عميق تظهر عليها بما تنتجه من أفعال، إذْ أعطى لكلّ شخصية ما تستحقه من بحثٍ، يعكس سلوكها وأحلامها وتصرّفاتها، بدءاً من العمر. أيّ إنّه فهم أبعاد الفئات العمرية كلّها فهماً معقولاً، بدءاً من الطفولة والمراهقة فالشباب، وانتهاء بمرحلة التقدّم والفراق.
هذا معطى أساسي ساهم بوضوح في إعطاء مصداقية للفيلم، وخلق عملية ثقة بينه وبين الجمهور، فكلّ فئة من المُشاهدين تجد نفسها فيه بطريقة أو بأخرى، وربما تتقاطع أحلام تلك الشخصيات الكرتونية مع أخرى حقيقية لهم. هذا تعكسه الكتابة الجيدة للسيناريو الذي شارك فيها دالو مع ديف إينغهام (مقتبس من رواية للكاتب رودي دويل)، إضافة الى التأنّي والبحث الجيّد وتتبّع سلوك الأفراد، وفهم سوسيولوجية المجتمع.
استطاع إنزو خلق حبكة قوية، يظهر أنّه عمل عليها بدقّة: خيط رفيع يقيّد المُتلقي لحثّه على متابعة التفاصيل وعيشها. انعكست الحبكة أساساً في مصير الجدّة، وخوف الحفيدة عليها، فأصبح مصيرها مُعلّقاً في ذهن الحفيدة وأسرتها، وصار المُشاهد أيضاً معنيّاً به، فبات مهتمّاً بتواتر المَشاهد والأحداث. أوجد إنزو أيضاً أحداثاً ثانوية أخرى، أثرت القصة وملأ بها كلّ الثغرات التي يُمكنها إحداث ملل. هذا معطى أساسي ومحوري، يُتحكّم فيه عبر التعامل مع السيناريو بصفته منطلقاً تقنياً وعلمياً، بعد تقسيمه إلى فصول، كلّ منها تقوده حبكة صغيرة، تسير توازياً مع الحبكة الأساسية، فيُضمَن تدفّق الأحداث في سياق سلس ومشوّق ومثير.
اعتمد إنزو على جماليات بصرية، كالفضاء الريفي بألوانه الزاهية، وبذكاءٍ وُظِّفت الطرقات ذات المنعرجات، والعمران القديم، والأرصفة المنضّدة، والحقول المُقسّمة بجدران حجرية، والهضاب والمرتفعات والواجهة البحرية، مُقدّماً إياها كلّها بصورةٍ بانورامية من الأعلى، مع نوارس تحلّق وتزقزق بصوتها المميّز. ومن الزاوية البصرية العليا، تتبّع سيارة الجدّة مع حفيدتها، السائرة في تلك الطرقات. كما ولّد الفضاء الساحر والمعزول نوعاً من حميمية، ساعدت في العودة إلى ماضي كلّ فرد، والذهاب في رحلة روحية، تسمح له أيضاً بمراجعة العلاقة القوية والحميمة التي تكون عادة بين جدّة وحفيد ـ حفيدة، انطلاقاً من الرمزية التي تحتفظ بها في ذهن كلّ فرد مهما كان عمره، ويكون الفضاء الريفي مسرحاً لتلك العلاقات التي لا يُمكن أنْ تزول من الذاكرة.
الفيلم عمل سينمائي متماسك، ومصافحة قوية بين أحفاد وأجداد، بعد أن أعاد اكتشاف العلاقة الدافئة، والسعي إلى الحفاظ عليها واستثمارها عاطفياً. قدّم هذه القيمة الإنسانية بمقاربة فنية عميقة، اعتمد فيها دالو على سيناريو متماسك، وقصة لطيفة مشحونة بالعواطف، وشخصيات مشكّلة بعناية فائقة. إنّه همزة وصل بين الماضي والحاضر، راسماً أبعاد الأزمنة وجمالياتها، ليكون صورة متكاملة عن الأسرة والمجتمع، والموت والحياة، والألفة والفراق.