"كلب أسود": فنيات وجماليات وبساطة عن حال أمّة كالصين

04 ديسمبر 2024
"كلب أسود": الصورة أوسع لشمولها بلداً برمّته (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي فيلم "كلب أسود" قصة الشاب لانغ والكلب السلوقي الأسود، حيث يواجهان تحديات اجتماعية ونفسية في مدينة مهجورة بعد خروج لانغ من السجن، مما يبرز العلاقة المعقدة بينهما.
- يتميز الفيلم باستخدام المدينة المهجورة والصحراء كعناصر درامية، مما يعكس حالة التدهور والانهيار، ويخلق تجربة بصرية تمزج بين الواقعية والسوريالية لدعم الحبكة وإبراز سمات الشخصيات.
- يعالج الفيلم موضوع الوحدة الإنسانية وصعوبة التواصل، مستخدماً العلاقة بين لانغ والكلب كاستعارة لحالة المجتمع، مع إحالات سياسية واقتصادية واضحة.

في "كلب أسود"، منبوذان: الشاب لانغ (إيدي بنغ) وكلب سلوقي أسود نحيف، غريب الشكل والمسلك. هذا في دراما صينية رائعة وممتعة وغريبة، للمخرج غْوان هو، الفائز بجائزة "نظرة ما"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ". لانغ مُدان سابق، يخرج إلى العالم بعد عشر سنوات. صامتٌ غالباً، لشعور فيه بالذنب بسبب وفاة زميله وابن منطقته، ولاتّهامه بالاشتراك في قتله؛ أو بسبب العطالة، وسوء الأوضاع، ومعاملة الناس، ومرض والده السكّير، حارس حديقة الحيوان، الوحيدة في المدينة المُصابة بالتدهور، إلى حدّ إغلاق أبوابها. المُقابل الدرامي لشخصية لانغ يؤدّيه كلبٌ ضال، لا يختلف عنه كثيراً في المسلك والصمت ومخاصمة المجتمع.

اختيار المكان أحد العوامل القوية في البناء الدرامي للفيلم. بفضله تضافرت وتكاملت أهمية المكان مع الفنّيات الأخرى، للارتقاء بجمالياته المميزة. المكان مدينة غريبة شبه مهجورة، مُنبتّة الصلة بالزمن، أو بالصين. مواقع التصوير الممتازة مُنتقاة بعناية شديدة: شوارع وحارات خالية تقريباً من البشر، صحراء شاسعة أتاحت لكاميرا المُصوّر ويدْجا غاو تحقيق أقصى استفادة منها كخلفية مُدهشة من الصخور والرمال، الممتزجة بمساحات مظلمة ومشمسة، قاتمة ومضيئة لتقلّبات السماء. المهمّ أن المشاهد والأمكنة ليست مجانية، بل تخدم الحبكة، وتدعم سمات الشخصيات وعوالمها.

توظيف المكان درس في كيفية استغلال المناظر الخارجية والديكورات لخدمة الدراما، وتعميق الأحداث، وإبراز الشخصيات، كما في معاملتها كبطلٍ لا يقل أهمية عن الأبطال الآخرين.

المدينة المهجورة غير معروفة. لكنْ، هناك يقينٌ بأنّها مُحاطة/مُتاخمة لصحراء قاسية، وأنّها تبدو، مع من بقي من سكّانها، مُستنزفة. كلّ شيء باهت، كما الألوان الأحادية العتيقة، وتقوّض البشر قبل الحجر. ولولا إشارة دلالية متكرّرة إلى قرب بدء أولمبياد بكين عام 2008، لما انتبهنا إلى الزمن، ولا إلى أسباب العجلة والانهماك في أعمال الهدم والتطوير، وإعادة البناء في أنحاء المدينة. فهناك تطلّع محموم في البلد إلى مستقبل، يعمد بشدّة إلى استبعاد من ليس أهلاً لسباقه الماراثوني. أوّل المستبعَدين، المنحرفون والضالون والجناة والعاطلون عن العمل والمنبوذون. هؤلاء يمثّلهم لانغ البائس والكلب الضال الذي يخشاه الجميع، بعد أنْ عَقر بعضهم، فاعتقدوا أنّه ينقل داء السعار.

 

 

بعد فترة، يبحث لانغ، الذي يُعبِّر بأداء جسدي لا لفظي، عن عملٍ. بعد تخبّط، ينصحه ضابط مراقبة بالانضمام إلى برنامج محلي مُصمّم لمعالجة مشكلة الكلاب الضالة في المدينة، بمطاردتها واصطيادها والتخلّص منها. تحديداً، الكلب الأسود الذي رُصدت مكافأة للإمساك به.

هناك سحرٌ في العلاقة المنسوجة بحِرفية ومن دون تكلّف، وعبر سرد بسيط متمهّل، ومهارة أداء، بين لانغ والكلب. وأيضاً، كيفية انقلاب الكراهية إلى نقيضها تماماً. فالأرضية المشتركة بينهما تسمو بعلاقتهما فوق المجتمع والعالم برمّته حولهما. هذا، مع تجنّب مقصود لأيّ كليشيهات سينمائية تمتُّ بصلة إلى أفلام هذا النوع، أو ترصد أيّ علاقة بين الإنسان والحيوان. انتهاء العلاقة بينهما هكذا يُشكّل مفارقة لافتة للانتباه، تتناقض كلياً ومشهد الافتتاح المُهيب.

والافتتاح منظرٌ بديع لطبيعة صحراوية، مرسوم بعناية بريشة فنان بارع. بعيداً عن أي جماليات، يؤسّس المشهد أسلوباً فريداً للفيلم منذ بدايته. في لقطة علوية واسعة، تظهر صحراء مترامية، تقطعها حافلة بعيدة على درب ترابي. من الزاوية المقابلة، بعد حركة بانورامية بطيئة للكاميرا، يظهر هجوم وتدافع مفاجئان وغير مُبرّرين، لقطيع ضخم من الكلاب الضالّة مختلفة الأنواع والأحجام والألوان، ما يؤدّي إلى انقلاب الحافلة. وبمجرّد إنجاز المهمة، غير المفهومة، تختفي الكلاب في يسار الكادر. الكاميرا العلوية، التي تلتقط ببانورامية رائعة هذا المشهد البطيء، الممتد لدقائق في مزيج بين السوريالية والواقعية، تظهر مراراً كراصدة وشاهدة على دمار وخراب وكلاب شاردة وحيوانات فارّة من حديقة الحيوانات، بعد هجرها.

يتعمّد غْوان هو ترك مساحات كثيرة غير مكتملة وفارغة وملغّزة في ثنايا السرد، وفي مواقع التصوير، كمن يدفع المُشاهد إلى إكمال الناقص والمبهم والفراغات المتروكة. رغم هذا، لا تكلّف ولا ادّعاء، بل عمقاً وأصالة وصدقاً. والأهم، جدية طرح وطزاجة حكاية، وفنيات مغايرة لجماليات الصورة والمعالجة والتخيّل البصري.

فلسفياً، يتمحور "كلب أسود" حول وحدة الإنسان، وصعوبة عثوره على من يفهمه ويتآلف معه، أياً كان نوعه. لتأكيد هذا، أدخل غْوان هو، بمهارة وذكاء، الخطّ الخاص بفتاة السيرك المتجوّل، والانجذاب العابر بينها وبين لانغ، الذي لم يفضِ إلى شيء أصيل وعميق وحقيقي في المشاعر والجسد والبوح والاجترار.

كاستعارةٍ، يحيل الفيلم، بحِرفية ودهاء وواقعية مُخيفة ومخفيّة، إلى صورة أوسع تشمل بلداً برّمته. فهذه الحبكة الصغيرة البسيطة تشريح لحال أمّة. ورغم إحالات سياسية واقتصادية واضحة، يُعتبر "كلب أسود" رحلة إنسانية عميقة لا تُنسى، في مدينة مهملة، في بلد رسم الفيلم لمحة عن كيفية تأهّبه منذ عقود لقيادة العالم.

المساهمون