كباتن الزعتري: كُرة في مرمى من الأسلاك الشائكة

27 مايو 2021
يقترح الوثائقي نظرة من زاوية مختلفة إلى اللاجئين (CPH:DOX)
+ الخط -

يتنقّل فيلم "كباتن الزعتري" (Captains of Zaatari)، للمخرج المصري علي العربي، بين أمكنةٍ لا يجمع بينها جامعٌ: مخيم الزعتري في الأردن، ومدينة مرفّهة في قطر. خيمٌ وبيوت صفائح وبلاستيك، وفندقٌ فخم. ساحةٌ مُتربةٌ لكرةٍ نَشِطة، وملعبٌ ممتدّ كبساطٍ أخضر. الفيلم معروض في قسم "زاوية واسعة"، في الدورة الـ52 (15 ـ 25 إبريل/ نيسان 2021) لـ"مهرجان رؤى الواقع ـ نيون (سويسرا)".

القسم غير تنافسيّ، إلا على جائزة الجمهور، مُخصّص لأفلامٍ سحرت الجمهور والمهرجانات سابقاً، أو أنّها مُهيّأة لتسحرهم عند عرضها. "كباتن الزعتري" مُهيّأٌ لذلك، ببساطته وشخصياته. فيلم وثائقيّ، يُختصر بكلمتَي الحلم والمثابرة، في سيناريو اعتمد على شخصيّتين تمتلكان شغفاً وأحلاماً: فوزي ومحمود. لاجئان سوريان، يعيشان في "مخيّم الزعتري" (الأردن)، اختارهما العربي بعد عيشه مع اللاجئين فيه. لحظ فيهما شيئاً مُختلفاً، فقرّر متابعة مسيرتهما لـ5 أعوام، وكانا حينها يبلغان من العمر 16 عاماً، ويلعبان كرة القدم، لتحقيق حلم يُراودهما: أنْ يُصبحا ذات يوم لاعِبَين مُحتَرفَين. يتدرّبان يومياً. الكاميرا تتابعهما، لكنّ التدريب ليس كلّ شيء، بل شَكّل أحد المحاور التي بُني عليها الفيلم.

في الشابين، شغف اللعب، وحيوية وإقبال على الحياة. صداقتهما القوية، وما تعنيه من وقوف أحدهما إلى جانب الآخر؛ أسرارهما العاطفية مع الفتيات؛ علاقتهما بالعائلة؛ أحلامهما المستقبلية في أجواء محبطة وبائسة. هناك العائلة أيضاً: للشقيقة الصغرى لمحمود حلمان، الأول صغير؛ إذْ ترغب في لعبةٍ، سيُحضرها لها شقيقها حين "يصير مشهوراً" بفضل كرة القدم؛ والثاني كبير، يتمثّل بعودة "أبٍ" غائب، تنتظره بشوق. هناك الترابط العائلي، والسعي إلى إسعاد الأهل، رغم العمر الفتيّ.

حياة محمود والكابتن فوزي تنقلب، ذات يوم، رأساً على عقب، مع مجيء وفدٍ من قطر لاكتشاف المواهب الشابة في المخيم. يتمّ اختيارهما للانضمام إلى "أكاديمية الشباب"، والمشاركة في "الكأس الدولية للناشئين"، المُقامة هناك، حيث التدريبات، ثم المباراة. أمامهما خيار من اثنين: أنْ يتجاوزا نفسيهما، ويصبحا الأفضل؛ أو العودة إلى المخيم. للمرّة الأولى في حياتهما، يلعبان على عشبٍ، وينتعلان حذاءين رياضيين. لم ينسيا سورية، وحلمهما بالعودة إليها، واللعب مع أشبالها في يومٍ ما.

بين الفندق والملعب، حيث يوجد لاعبون عالميون مشهورون، تتغيّر حياتهما. "أين كنّا، وأين صرنا"، يقولان ببراءة ودهشة، من دون شعور بدونية إزاء ما يريان. هما فَرِحان، فقط. صداقتهما تبقى كما هي، ويبقى هذا الإحساس بأنّ ما يحصل ربما لن يدوم. لكنْ، لا بأس. لم يَدم، ولم يُعنَ السيناريو بذكر الأسباب، ربما لبديهيّتها، فعمرهما وتدريبهما العشوائيّ السابق لم يسمحا لهما بالبقاء، وبالعالمية. توضيح غير ضروري: مسيرة حياتهما، والتركيز عليهما كشخصيّتين تتحلّيان بهذا الشغف والحلم، رغم أسوار المخيم، والتعلّم من التجارب، هذا كلّه اشتغل الفيلم عليه. "الزعتري" لم يبدُ مكاناً بائساً رغم بؤسه، مع هذه الصفوف الطويلة لاستلام حاجيات من "هيئة الأمم المتحدة"، والدراسة على ضوء الشموع، والعشاء في ظلّ نورها الخافت. هذه الساحة، التي تحوّلت إلى ملعبٍ تتطاير أتربته مع كلّ ركلة كرة، تئنّ تحت أشرطة لاصقة تسدّ شقوقها، وأقدامٍ تتحدّى الحرمان، وتركض بحماسةٍ وإصرار لتحقيق هدف.

لا يهمّ إنْ أضحت حافية بعد تطاير "الشَحّاطة"، فلا شيء هناك يُمسك بها وُيثبّتها. جدران وأسلاك شائكة تحيط بالمخيّم، لا تتوقّف عدسة علي العربي طويلاً عندها، بل يبرزها بالقدر الذي يسمح بتحرّك شخصياته في المخيّم. يجعل البهجة، ولو للحظاتٍ وجيزة، في قلب مكانٍ لا يليق بالإنسان، بفضل فتية مبتسمين ومرحين دائماً، يركضون بلهفة في ملاعب لا تحتمل تقاعساً ولو مؤقّتاً.

أراد العربي المكان فرحاً ومليئاً بصيحات الصغار وابتهاجهم، وإنْ تخلّله أسى. التقشّف في مَشاهد الحزن والبؤس والحياة الصعبة لا يعني لامبالاة بها. قوّة حضورها في بعض المَشاهد كافية لترك أثرٍ لا يُنسى. مثلاً: الأب الذي اضطر للانفصال عن أسرته، وبدأ يعمل في تنظيف السيارات خارج المخيم، يحمد الله أمام الكاميرا، ثم يغطّي وجهه باكياً مصيره بصمتٍ، بعيداً عنها. مشهد آخر يُصوّر انضمامه إلى أسرته في المخيّم، وهو يغنّي بعفوية وبصوتٍ شجيّ جميل: "سَوّاح ومشوار بعيد، وأنا فيه غريب"، كتعبيرٍ مؤثّر ومُكثّف عن المأساة السورية.

في بداية "كباتن الزعتري"، يشكو محمود، بعد تأنيب والده له بسبب غيابه عن المدرسة، بأنّ اسم "لاجئ" سيُلاحقه حتّى لو حصل على شهادة. في مشهد آخر، بعد المباراة الدولية، يقول للعالم أمام العدسات إنّ ما يحتاج اللاجئ إليه "فرصةً" لا "شفقة".

اللاجئ ليس رقماً، وهذا ما يقوم عليه الفيلم، الذي يقترب من أسماء وشخصيات، ومن حياة يومية عاشها المخرج في المخيّم، وأدرك من خلالها شخصياته. لم ينتبه إلى بطليه فقط، بل أظهر آخرين أيضاً، كالشقيقة والأم والأب، وإنْ في مَشاهد قصيرة وقليلة، لكنّها مُكثّفة ومُعبّرة. اقترابه أكثر من الأب حصل من دون أنْ يُشعِر مُشاهده بشفقةٍ عليه، بل بحزنٍ وثورة، وبمشاعر نبيلة. بدا اللاجئ إنساناً لا يزال يحلم، ويحاول تحقيق الحلم. ربما يفشل، لكنّه يستمرّ. لم يُجسّد "كباتن الزعتري" قصّة بطولة ومعجزات، بل أحلاماً ومحاولات أمل وصمود، ونظرة من زاوية مختلفة إلى اللاجئين.

المساهمون