شبكة التواصل غير الاجتماعية: عندما اتفق مراهقون على تشكيل مجتمع عبر الإنترنت

14 نوفمبر 2024
أضعف جزء في النظام هم الأناس الذين صنعوه (نتفليكس)
+ الخط -

في عام 2018، قدم آرثر جونز وجورجيو أنغليني عملاً وثائقياً فريداً من نوعه، يحمل عنوان Owned: A Tale of Two Americas. أشرف المخرجان على كل مراحل العمل مباشرةً، ضمن تصور عام عن صعوبة القضية التي يتناولانها وخصوصيتها. يتتبع الفيلم التاريخ المظلم خلف اقتصاد الإسكان في الولايات المتحدة الأميركية، وما أنتجه من آثار كارثية على العديد من جوانب الحياة، مع تشريحٍ دقيق للبدايات العنصرية الصريحة لهذا الاقتصاد، وكيفية إقصاء السود والملونين عن الحلم الأميركي الأبيض، عبر القانون والمؤسسات.
أثار العمل ضجةً على المستوى الجماهيري والنقدي؛ إذ حوّل قضيةً شديدة الخصوصيّة إلى نقاشٍ عالميّ حول تسليع الأرض وحق الإنسان في المسكن ومفاهيم المواطنة العابرة للأعراق، وحافظ على القيمة الجمالية والفنية للعمل الوثائقي، وأعاد تفعيل الدور الحساس الذي يلعبه في الثقافة.
لأنغليني تحديداً مسيرة طويلة ومتعددة الجوانب في الفنون الإبداعية. تنقّل من العزف مع فرقٍ موسيقية عديدة، إلى دراسة الهندسة المعماريّة، وحصلت تصميماته على جوائز عديدة. أخيراً، أطلق هو وجونز شركة إنتاج سينمائية متوسطة. وعلى الرغم من قدرتهما على الدخول بقوة أكبر في السوق، فإنهما يفضلان تقليصَ حجمِ الأعمال ليبقيا السيطرة الكاملة على الأعمال في أيديهما.
في عملهما الأخير، "شبكة التواصل غير الاجتماعية: من أيقونات الإنترنت إلى الفوضى" (The Antisocial Network: Memes to Mayhem)، الذي يُعرض على "نتفليكس"، حاولا جاهدين، عبر إلقاء نظرة على تاريخ بداية الإنترنت في الولايات المتحدة الأميركية، استكشاف تقاطع المفاهيم السياسية للجيل الذي كان حينها في مرحلة المراهقة، وثقافة الإنترنت التي بدأت بفرض ثقلها على المجتمع، والارتدادات الثقافية لتلك التقاطعات على العالم الواقعي.


للعمل الوثائقي (82 دقيقة) بنية سرديّة تقليديّة من مقابلات مع من لهم صلة، ومشاهد معدة مسبقاً، وصولاً إلى الأرشيف الصحافي والرسوم المتحركة التي تضفي طابعاً ديناميكياً على الفيلم. انطلق السيناريو بتسلسل زمني واضح، كإعادة ترتيب للأحداث التاريخية. كانت البداية عندما اتفق مجموعة من المراهقين المتباعدين جغرافياً على تشكيل مجتمع مترابط عبر الإنترنت، ليناقشوا اهتمامهم المشترك، وهو قصص المانغا اليابانية.
صمم موقع 4Chan مراهق يدعى كريستوفر بول (لقبه moot) وأطلقه في عام 2003. الموقع نسخة طبق الأصل (ما عدا اللغة) عن الموقع الياباني 2Chan. تحول الموقع إلى ساحة للامعقول، لها قانون دارويني واحد يضبطها؛ المنشور الذي يحصد أعلى تفاعلات ينجو ويبقى في المقدمة. المساهمون الأوائل هم من أُجريت معهم المقابلات، وكانوا من أعتى القراصنة في ذاك الزمن. للموقع اليوم إدارة مختلفة، ولكنه مستمر على النهج نفسه.
مجموعة Anonymous وقناعها الشهير الذي انتشر عالمياً بعد عرض فيلم V for Vendetta، ولدت في هذه المساحة. ولا شك أن هذا الموقع يحمل إرهاصات مواقع التواصل الاجتماعي بوجوهها المتعددة. باسمٍ وهمي، يستطيع أي أحد الدخول إلى الموقع ونشر أي شيء يمكن أن يتفتق عنه خيال الإنسان. حينها، ظهرت الميمات (الصور التي تحمل معنى كوميدياً غير معقد، وهو مصطلح نشر لأول مرة في كتاب "الجين الأناني" لريتشارد دوكنز عام 1976). وبدأت معها حملات تكاتف قبليّة بين المشتركين لتنفيذ غارات إلكترونية أو حتى واقعية على القضايا الساخنة في المجتمع.
بدأ الحديث عن عدالة توزيع الدخل بين السكان. العديد من الحملات، كـ"أسراب الجراد"، كانت توجه ضد أصحاب البرامج التلفزيونيّة والإذاعيّة التي تحمل خطاباً يمينياً أو عنصرياً أو متطرفاً. حملة هائلة كانت موجهة ضد هيلاري كلينتون المتهمة بتشكيل طائفة شيطانية تغتصب الأطفال، وهجمات سيبرانية أدت بالمشتركين إلى الصدام مع وكالة الاستخبارات الأميركية واعتقال العديد منهم، وحينها تحديداً تلاشت أحلام هؤلاء المراهقين بتشكيل قوة خير عالمية.
أحد المشرفين على الموقع يروي خلال العرض أن "أضعف جزء في النظام هم الأناس الذين صنعوه". وبدأ بعدها حديثاً طويلاً عن تأثير الإنترنت على حياة جيلٍ دائماً كانت الشبكة العنكبونية حاضرة في يومياته، وألقى كثيراً من الحجج النفسية على مسامع المشاهدين تبرر التآزر القبليّ، الذي كان دائماً ما يودي بالمشاركين إلى المشكلات، كالرفض والغربة الاجتماعية والتنمر.
في أحد الاجتماعات الكبيرة للمشتركين، رفع الطيف الأكبر منهم تحية النازيّة. حينها، ذهبت الكوميديا من دون عودة، وانسحب مؤسس الموقع مع عدد كبير من أصحاب النيّات الحسنة الذين يحبون المانغا. استمر الموقع في ترويج نظريات المؤامرة وكل ما هو عنصريّ وشعبويّ ونازيّ ومعادٍ للمرأة على وجه الخصوص. في عام 2021، بدأت حملات واسعة على الموقع وما تولد منه من مواقع رديفة وبديلة بحملاتِ دعمٍ لترامب، وتحولت قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض إلى شبكة اجتماعية ترامبيّة نقيّة، وهذا بالتأكيد ما لم يكن في حسبان moot.

يصنف "شبكة التواصل غير الاجتماعية" في فئة الأفلام الوثائقية حول "الإنترنت السيئ". ما زالت هذه الفئة في بداياتها، ويعتبر هذا العمل إضافة جيدة لها. قد نحتاج في المستقبل إلى الخروج من النمطية الجمالية للألوان النيونيّة المستخدمة بكثافة ومشاهد الكولاج للسلاسل الأثيرية التي تقيد المستخدمين إلى نقاشٍ اجتماعي وثقافي وسياسي أكثر نجاعة وفائدة، جميعها متوازنة داخل الإطار السينمائي الجامع.

المساهمون