قُرّاء مصر الجدد: فن التلاوة في قبضة السماسرة

23 اغسطس 2021
يمثل "السرادق" الميدان الأهم لممارسة التلاوة القرآنية (Getty)
+ الخط -

عبر عقود، فرضت التراتبية المشيخية في مصر نظاماً صارماً للفرز، تتحدد فيه مكانة من يعتلي دكة تلاوة القرآن وفقاً لمعايير دقيقة، كان حسن الصوت وجودة الأداء في مقدمتها. ثم جاءت الإذاعة عام 1934، لتكون أبرز وسيلة للفرز والتدقيق والتقديم والتأخير، في دور رسالي لم يعد قائماً اليوم.

ومن خلال النظام المشيخي، وبموازين الانتقاء التي فرضتها الإذاعة، عرفت مصر والعالم الإسلامي تلك الكوكبة التي نسميها "كبار القراء". لكن هذه القيم اختفت، وأصبح التقديم والتأخير بيد تجار وسماسرة ومستفيدين، ليس لهم أي دراية بهذا الميدان، ولا بتاريخ أعلامه، ولا بسماته وخصوصيته. وفي ظل هيمنتهم، تراجعت المواهب الحقيقية، وتصدرت مجموعة من أصحاب الأصوات المزعجة والأداء المنفر، فدخل فن التلاوة نفقاً مظلماً.

يمكن لمن يريد أن يضع يده على حجم التراجع في فن التلاوة المصرية، أن يرجع بذاكرته إلى أوائل الستينيات، ليستعرض أسماء قراء المساجد الكبرى في القاهرة، ليجد أن مصطفى إسماعيل في الأزهر، ومحمود خليل الحصري في الإمام الحسين، وعبد الفتاح الشعشاعي في السيدة زينب، وعبد الباسط عبد الصمد في الإمام الشافعي، وكامل يوسف البهتيمي في عمر مكرم، ومحمد صديق المنشاوي في الزمالك، وطه الفشني في السيدة سكينة، ومحمد سلامة في السيدة فاطمة النبوية، وعبد العظيم زاهر في صلاح الدين، ومحمود عبد الحكم في السيدة نفيسة. ثم ليستفيق من حلمه، ويرتد بصره إلى اليوم، ويقارن الوضع.

في المشهد الإقرائي الحالي، يمثل "السرادق" (حيث يجتمع الأفراد في مناسبة معيّنة) الميدان الأهم لممارسة التلاوة القرآنية التجويدية التي اشتهرت بها مصر... وفي العقود الثلاثة أو الأربعة الماضة، أصبح لبنائي السرادقات دور كبير في تشغيل القارئ، باقتراح اسمه على "أصحاب المناسبة". لكن مع استفحال عادة تصوير وقائع المحفل بالفيديو، ورفع المقاطع على شبكات التواصل الاجتماعي، انتقل الدور الأكبر في إدارة السرادق إلى هؤلاء "المصورين"، فتحولوا إلى سماسرة ووسطاء بين القارئ وصاحب المحفل... وبسبب هيمنتهم ونفوذهم صار القراء يقبلون باقتسام أجورهم معهم، وإلا جلسوا في بيوتهم، في انتظار دعوة للتلاوة قد تأتي بعد أسابيع أو أشهر.

ومصورو المحافل القرآنية، ليسوا من أهل العلم بالتجويد والقراءات، وأيضاً لا يملكون أي دراية موسيقية، ولا أي خبرة فنية، وهي الأدوات اللازمة، لوزن أي قارئ، أو تقويم أي تلاوة. لكنهم في سبيل الـ business لا يدخرون أي جهد لإضفاء صفات التفخيم والتجميل والإشادة على كل تلاوة يسجلونها، كي تجتذب مزيداً من المشاهدات، فتدر مزيداً من المال. وفي قنوات المصورين، ستجد أن كل تلاوة هي إبداعية، أو تاريخية، أو مزلزلة، أو تعبيرية، أو ختامها عالمي، أو تسببت في بكاء الجمهور، أو تتضمن "جوابات" صاروخية، أو انتقالات نغمية، أو قفلات إعجازية... فإذا أراد المستمع أن يستوثق من تلك الأوصاف، واستمع بنفسه إلى التلاوة، لم يجد إلا أصواتاً ضعيفة، وأداءً مهترئاً، وجملة نافرة، وأصواتاً يلفها النشاز. لكنه رغم ذلك، يكون قد حقق للمصور ما أراد، وأضاف مشاهدة واحدة على الأقل إلى عداد المشاهدات، الذي تتحدد به قيمة المدفوعات.

هيمنة المصورين والسماسرة، انعكست عمليا على الذوق الجماعي، وعلى فهم الأجيال الجديدة المهتمة بهذا الميدان، فكثير من الشباب وصغار السن، تأثروا بالأوصاف الوهمية التي يقرأونها على مقاطع الفيديو، وصفحات التواصل الاجتماعي، كما تأثروا بالمجاملات التي يسديها "قراء السوق" بعضهم إلى بعض، بعد أن حول المصورون هذه المجاملات إلى "شهادات"، أو "إقرارات" من زملاء المهنة. وأصبح المتمسكون بالأداء الراقي، والحفاظ على أحكام التلاوة، وعلى الأنماط الموروثة في السير النغمي والقفلات، لا يكادون يجدون من يدعوهم إلى محفل يحيونه، إلا على تباعد زمني، وفي نفس الوقت، تزدحم أجندة أصحاب الأصوات الضعيفة والأداء الركيك المبتذل بجدول سهرات متصل، وآلاف تدخل الجيوب كل ليلة.

يتابع المصور أخبار المآتم في القرى والمراكز، يتحسس المحافل المتوقعة، بنفسه أو بشبكة علاقاته، وبمجرد أن يأتيه الخبر بوفاة أحد أفراد عائلة كذا، يبادر بالاتصال بهم، وإقناعهم باستدعاء القارئ فلان، مشيدا به، وبأدائه، وباعتدال أجره. ووفقاً لاتفاق مسبق، يتقاسم القارئ والمصور أجر الليلة مناصفة، فإذا تلقى القارئ مثلاً 12 ألف جنيه (765 دولارا)، أعطى المصور منها 6 آلاف.. وإلا، ضاعت ليال وسهرات كثيرة على هذا القارئ، حتى لو كان ذا شهرة وصيت.

مع استفحال عادة تصوير وقائع المحفل بالفيديو، ورفع المقاطع على شبكات التواصل الاجتماعي، انتقل الدور الأكبر في إدارة السرادق إلى هؤلاء "المصورين"، فتحولوا إلى سماسرة ووسطاء بين القارئ وصاحب المحفل

في ظل هذا المناخ، ينظر المصورون إلى القراء بحسب الاستفادة منهم، لا بحسب موهبتهم ومدى جودة أدائهم. ثم تأتي المرحلة الثانية بعد التصوير، وهي استخدام الفيديو الذي تم تصويره في الترويج لهذا القارئ، من خلال نشر التلاوة كاملة أو أجزاء منها، على صفحات التواصل الاجتماعي، وقنوات "يوتيوب"، وأيضا الترويج للمصور نفسه، ولأصحاب الفراشة والصوتيات والإنارة.

لا ينتهي دور المصور عند الترويج لمجموعة القراء التي يستفيد منها، إذ عليه أن يواجه بكل شراسة أي نقد قد يوجه إلى هؤلاء القراء، مهما كان علمياً وموضوعياً، بل هو يواجه أي نقد لتلك العناوين الزائفة التي يضعها على المقاطع التي ينشرها. وهنا، يكون المصور في أشرس حالاته، إذ ينطبق عليه المثل "عض قلبي ولا تعض رغيفي" فينطلق يسب ويشتم وينشر والأكاذيب. لأن النقد الموضوعي يهدد "السبوبة" التي يرتزق منها، ولو على حساب إفساد فن التلاوة، وإتلاف الذوق، ورفع الصغار إلى مرتبة الكبار كذباً وزوراً.

فحين يطالع المهتم بفن التلاوة صفحات ومواقع تصف أصحاب الأصوات الصدئة بالعباقرة، وأصحاب النشاز بملوك النغم، فمن الواجب أن يدرك أن كل هذا الخبل يقف وراءه مرتزقة ومتسببون، أهونهم شأناً من يتلقى المال ليكتب هذه العناوين، فالأمر أعمق من هذا وأخطر. ومن دون أي مبالغة، فإن ميدان التلاوة تحول إلى مافيا، تديرها عصابات، وشبكات مصالح، لا يهم أصحابها إلا جمع المال، ولو على حساب هذا الفن الشريف، وإتلاف ذائقة الجمهور.

مواقع التواصل الاجتماعي، ساعدت المصورين في فرض هيمنتهم الجهولة، فبسببها، تراجع الدور المركزي للإذاعة، التي كانت تعاني ضعفاً في الاختيارات والاختبارات منذ أوائل السبعينيات، ولم تعد تتمتع بتلك الثقة الجماهيرية الكبيرة كما كان الشأن في الخمسينيات والستينيات.. ومع تراكم الضعف، لم يعد انتماء القارئ للإذاعة يعني أي شيء، ولا يدل على مكان أو مكانة. وحتى السفر للخارج، وإحياء المحافل في البلاد الإسلامية أو للجاليات المسلمة في بلاد الغرب، لم يعد الانتماء الإذاعي شرطا فيه. فمن خلال "يوتيوب" و"فيسبوك"، وعبر وسطاء ومتعهدي حفلات، يمكن للقارئ الذي يعيش في قرية صغيرة في الدلتا أن يسافر إلى باكستان أو بنغلادش، أو أي دولة. وسفر هؤلاء القراء غير المؤهلين علمياً ولا فنياً كان له دور كبير في الإساءة لسمعة فن التلاوة المصرية العريقة.

ربما لا يعرف كثير من المهتمين بفن تلاوة القرآن، أن مصر، وحتى يومنا هذا، لا تملك معهداً أو أكاديمية لتخريج قراء القرآن، وما زال هذا الفن متروكاً للعشوائية التعليمية الأهلية، التي قد تصادف وتنتج قارئاً جيداً، أو أن يأخذ التدهور مجراه كما يحدث غالباً.

وكما لا نملك حتى الآن جهة أكاديمية تخرج القراء، فإننا أيضا لا نملك جهة علمية قانونية تمنح رخصة التلاوة، وتراقب أداء القارئ وتحاسبه. فمشيخة المقارئ مثلا لا سلطان لها على القراء نهائياً، ورغم الفخامة الظاهرة للعنوان "شيخ عموم المقارئ المصرية"، إلا أن القانون لا يمنحه أي سلطة على قراء المحافل والسرادقات. فالمقارئ، هي حلقات أسبوعية لختم القرآن، يحضرها أعضاء نجحوا في اختبار بسيط للحفظ والتجويد، ولا يشترط فيها حسن الصوت نهائيا. ولها دفاتر حضور وانصراف، وأيضاً لها مكافأة مادية بسيطة جداً. ولكل مقرأة شيخ، ثم يتسع الأمر، لنصل إلى "شيخ عموم المقارئ" الذي يصدر قرار تعيينه من وزير الأوقاف، فهو في نهاية الأمر موظف في الوزارة، والوزارة ليس لها أي سلطة قانونية على القراء، إلا قراء مساجدها.

نقابة القراء، لا تملك أي سلطة تجاه القراء، ومن الأصل، فإن القانون لا يفرض على ممارس مهنة القراءة أن يكون عضوا بالنقابة. لذلك، نجد النقيب وأعضاء المجلس متحيرين في اجتماعاتهم "النادرة"، وقليلي الحيلة إلى حد العجز الكامل تجاه المسيئين، والأمر برمته يحتاج مبادرة تشريعية، وهي من اختصاص البرلمان. فلا يمكن أن تترك هذه المهنة دون قانون ينظمها، ومؤسسات ترعاها.

المساهمون