استمع إلى الملخص
- برع الزبيدي في المونتاج، مما جعله شريكاً أساسياً في صناعة الأفلام، وانتقل للإخراج لتحقيق رؤيته الفنية، حيث قدم أعمالاً بارزة مثل "اليازرلي" التي تناولت قضايا اجتماعية وسياسية معقدة.
- كان ناشطاً في البحث والكتابة، موثقاً اللحظات التاريخية، وأنتج أفلاماً وثائقية مثل "فلسطين سجل شعب"، لحماية الذاكرة الفلسطينية من النسيان.
لعلّ أصدق وصفٍ يُمكن أنْ يعكس جوهر السينمائي قيس الزبيدي (1939 ـ 2024)، المخرج والمُولِّف والباحث والناشط، كامنٌ في "عاشق فلسطين"، عنوانَ كتابٍ عنه للمصري محسن ويفي، صادر عن "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة" (الدورة الرابعة، 24 ـ 30 يوليو/تموز 1995). فاشتغالاتٌ عدّة، أفلاماً ودراسات وأرشفة والتزاماً أخلاقياً وثقافياً، ترتكز على بلدٍ محتلّ، وعلى أناسٍ يُقاومون المحتلّ بأساليب مختلفة، ستكون اشتغالات الزبيدي نفسه أحدها.
التزامه فلسطين، بلداً وشعباً، غير حاجبٍ عنه وعياً بالجانب الإبداعي في صُنع سينما، يُريدها فنّاً يمتلك شرطه الجمالي، الذي يتساوى ومضموناً درامياً (في الوثائقي والروائي) يُعنى مباشرة بالهمّ الفلسطيني: "المطلوب ليس عمل أفلام عن فلسطين فقط، بل نوعية فنية جديدة للفيلم الفلسطيني"، يقول الزبيدي، مُضيفاً إنّ هذا الأمر ليس "مسألة يومية"، لارتباط النوعية المطلوبة "بفرصٍ سياسية وإنتاجية، تُتيح المجال أمام الإبداع الفني الذي يلتزم نوعية جديدة للفيلم الفلسطيني السياسي".
همّه الفني يترافق وهمّه الأخلاقي والثقافي إزاء قضية مفتوحة على احتمالات جمّة. قوله هذا ركنٌ أساسيّ في مسار الإنتاج الفلسطيني متنوّع الأشكال والأساليب، وسابقٌ للحاصل منذ أواخر ثمانينيات القرن الـ20، مع بداية حقبة أخرى تقول بما يُريده الزبيدي لسينما فلسطينية تناضل بوسائل فنية وجمالية، وتواجه بأداوت معرفةٍ ووعي، وتكشف ذاتاً وبيئة وتربية وسلوكاً في الفرد الفلسطيني أيضاً. الزبيدي، بتعبيره هذا، يكاد يكون أحد أوائل المهمومين بالصورة السينمائية الفلسطينية، كأنّ انغماسه في التوليف منبثقٌ من إدراكه أهمية فنون السينما، لا نصّها فقط: "كان قيس كـ"مونتير" يحاول دائماً في عمله أنْ يكون وفيّاً لوعيه المهنيّ وثقافته السينمائية، ويسعى إلى الحوار مع مخرج الفيلم الذي يُمنتج فيلمه، ليكون الفيلم محطة في مشروعه، وأنْ يُحمِّله ملمسه الذاتيّ ورصانته الحِرفية"، كما يكتب السينمائي السوري محمد ملص في "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار" (نوفل ـ دمغة الناشر هاشيت أنطوان، بيروت، الطبعة الأولى، 2019)، مُضيفاً: "لكنّ الفيلم يبقى فيلم مخرجه".
لذا، ينتقل قيس الزبيدي، الراحل في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى الإخراج، ليتمكّن من تحقيق مبتغاه، من دون أنْ يتنكّر للتوليف، بل لمعنى التوليف بحدّ ذاته، مُشاركاً أساسيّاً في صُنع أي فيلم. هوسه بالصورة، الذي يُشبه كثيراً هوسه بفلسطين، دافعٌ له إلى خوض اختبارات فنية ومهنية، والإخراج أحد تلك الاختبارات، و"اليازرلي" (روائي طويل، 1973) سيبقى لحظة فارقة في سيرة مخرجه، كما في سيرة سينما عربية بديلة، تنشأ في ظروفٍ سياسية وتاريخية واجتماعية صعبة (مطلع سبعينيات القرن الـ20)، في عالمٍ عربي خارجٍ من هزيمة قاسية (نكسة 67)، ومُقيمٍ في أعوام استنزافٍ تنتهي بـ"حرب تشرين" (أكتوبر 1973). والأهمّ أنّ مواجهة النكسة وعيش الاستنزاف تحضيراً لحرب أخرى تترافق وتساؤلات عاملين وعاملات في ثقافة وفن وغيرهما، تتعلّق بالحاصل بحثاً عن إجاباتٍ لن تكون حاسمة ونهائية.
فـ"اليازرلي"، بجرأته في التنقيب في أحوال أفرادٍ (مرفأ اللاذقية) وانشغالاتهم وهواجسهم وانفعالاتهم وأحاسيسهم وعلاقاتهم (بالمرأة والجسد تحديداً، كما بأنفسهم والآخرين)، يكشف عن مآزق وانكسارات ومخاطر، يعانيه اجتماع وبيئة، مع انفتاح على حالة أوسع: "إنّه صورة جديدة في السينما العربية"، في رأي الناقد المصري سمير فريد (كتاب ملص). أمّا المرأة فيه، بحسب الزبيدي، فهي الأم والحلم والنقاء، كما أنّها تتجسّد، عند الصبيّ، بأخته الهاربة، رغم إشارات إلى أنّها "أصبحت مومساً".
فلسطين حاضرةٌ في أكثر من فيلمٍ وثائقي له: "بعيداً عن الوطن" (1969)، و"شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب" (1972)، و"نداء الوطن" (1976)، و"وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين سجل شعب" (1985)، والأخير "أحد أهمّ الأفلام حول القضية الفلسطينية"، كما يكتب الناقد الفلسطيني السوري بشار إبراهيم، في "نظرة على السينما الفلسطينية في القرن العشرين" (الطارق للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الاولى، 2000)، موضحاً أنّ سبب هذا كامنٌ في "التسجيلية البارعة، والوثائق النادرة، المنسوجة بجهدٍ واضح، وتماسك فني وفكري، يُنظّمه سيناريو مُقنع".
هذه أمثلة. لائحة أفلام قيس الزبيدي الفلسطينية وغير الفلسطينية، تشي بانهماكٍ، ممزوج بحيوية وحماسة، في توثيق حكايات مستلّة من يوميات قهرٍ وآلام، لكنّها يوميات مقاومة أيضاً. والتوثيق غير محصورٍ بهذا النوع السينمائي، ففي الروائي توثيقٌ مشغول برغبةٍ في حماية الحاصل من نسيان وتغييب.
عشقه فلسطين عميق وجميل، لكنّه لن يحول دون تنبّه إلى عمله في مهنٍ فنية سينمائية أخرى، أبرزها المونتاج، الذي يُقال مراراً، في مناسبات كثيرة، إنّ الزبيدي يكاد يكون أبرع موظِّفٍ له (المونتاج) في خدمة النصّ السينمائي. أمّا البحث والكتابة، فيتوافقان تماماً مع هاجسه السينمائي الأبرز: التوثيق أولاً، ومحاولة إيجاد تفكيرٍ نقدي عربي يُرافق الإنتاج السينمائي العربي، ويجهد في "تأريخ" اللحظة بكتابةٍ تناقش وتُفكِّك وتسأل، والسؤال يبقى أفضل نقاش وتفكيك، لكونه استمراراً في البحث والقراءة والوعي.
في مقالة له ("إشارات إلى بعض قضايا الفيلم التسجيلي العربي"، 1986)، يكتب الناقد والباحث السوري سعيد مراد أنّ "ما نشاهد على الشاشة لا يُعبِّر فقط عن موقف الفنان من المادة التي يعالجها، وطريقته في المعالجة، وهدفه من تعميم الاستنتاجات التي ينتهي إليها، بل نقرأ من خلال كلّ هذا ما هو أهمّ وأعمق، أي ما يُعبِّر عن موقف الفنان بوصفه مواطناً" ("مقالات في السينما العربية"، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الاولى، 1991). ألم يكن الزبيدي، بأفلامه وكتاباته وحياته، نتاج فنان يتساوى والمواطن في الرؤية والبحث والاشتغال؟ ألم يكن عراقياً وسورياً ولبنانياً وفلسطينياً (قبل استقراره في ألمانيا منذ سنين) في آن واحد، ودائماً؟