قرب نهاية العام الماضي، ظهر أمامنا على صفحات التواصل الاجتماعي للمرة الأولى بودكاست "قطش ولحش"، وهو أقرب لحوار ودردشة ساخرة بين عمار دبا وجمال منصور، وهما سوريان، كل واحد منهما مقيم في مدينة، عمار في أمستردام وجمال في تورونتو.
يشرح لنا عمار في الحلقة الأولى، أن البودكاست أسبوعي، ويتناول مواضيع محددة يتناقش بها مع جمال، ويوظف كلاهما حس دعابة بعيداً عن السماجة لتفنيد كل فكرة، وفي حال "تسامج" أحدهما، فالآخر له بالمرصاد، لا فقط حفاظاً على سلامة الجمهور العقلية، بل أيضاً حفاظاً على تدفق الحديث وحيويته.
هذا التخفف الذي نراه ونسمعه في البودكاست، لا يعني اختفاء الجديّة، كل من عمار وجمال يطرحان أسئلة متنوعة، لا تسفّه الموضوع المتناول، بل تحاول استعراض وجهات النظر المختلفة التي قد تبدو ذاتية، لكنها تحاكي مختلف الآراء المتداولة في الفضاء العام، سواء بسخرية أو بجديّة، خصوصاً أن "الكُل مُرحّب به"، ولن ينجو أحد من "الزنبرة"، فالكل عرضة للانتقاد. وهنا يظهر حس الدعابة الذي يحمل الخصوصية السوريّة البعيدة عن التكلف أو الرسميّة أو التأدّب، تلك الدعابة العفوية التي لا نشهدها في المنتجات الثقافية التقليديّة، خصوصاً أن البودكاست ينتقد الآراء العامة الساذجة أو الحمقاء أو الناتجة عن الجهل.
لا تقتصر المواضيع على تلك السوريّة البحتة أو العربية، بل يناقش البودكاست ما يدور في الساحة العالميّة، ويقدم فهماً واعياً لهذه المتغيرات، ويشير مثلاً إلى الشكل السياسي الحالي الذي يخوضه العالم، في ذات الوقت هناك محاولة للإشارة إلى أين نقف نحن "السوريين" أو "العرب" من هذه التغيرات، وهنا يظهر التحرك بين الجديّة والمزاح، والذي يحمي البودكاست من الابتذال والتنظير البحت.
ما يثير الاهتمام في "قطش ولحش" أيضاً هو غياب النزعة النوستالجيّة والنحيب. هناك راهنيّة في التعامل مع المواضيع، والتي نكتشف عبرها لا فقط شخصيات المقدمين، بل أيضاً الآراء التي يُسْكَت عنها وتتداول فقط في السرّ، إذ تُستعرض علناً دون إهانة أو تجريح، بل يظهر التلاعب بالكلام الذي يحمي أصحاب النكتة من التشهير، وهذا ما نراه مثلاً في الحلقة المعنونة بـ"الأسبوع الأول من 2021" والتي يناقش فيها عمار وجمال التغيرات السياسية التي شهدناها خصوصاً فوز بايدن بالانتخابات.
وهنا لا نرى احتفاءً بالغرب وسخرية من الشرق، بل تفنيداً لبنى الدول المختلفة بعيداً عن نظريات المؤامرة، في تركيز على أسلوب عمل الدول، وكيف أن الصراعات بينها نتاج سياسيّ، لا مجرد تصرفات عمياء أو رغبات ديكتاتوريين مهووسين بالسلطة، وهنا تتم الإشارة إلى المجتمع وعلاقاته وأهمية التحرر من الصورة التي تلصق بالشرق ومواطنيه الغارقين بالاختلافات المذهبية والطائفيّة.
لا نرى احتفاءً بالغرب وسخرية من الشرق، بل تفنيداً لبنى الدول المختلفة بعيداً عن نظريات المؤامرة، في تركيز على أسلوب عمل الدول، وكيف أن الصراعات بينها نتاج سياسيّ
آخر ثلاث حلقات حتى الآن في "قطش ولحش" معنونة بـ" نظرية المؤامرة"، وهي فيديوهات قصيرة تناقش فكرة نظريات المؤامرة، سواء في الولايات المتحدة أو في مجتمعاتنا، في محاولة لتفسير هذه الظاهرة، ولمَ يتم الترويج لهذه النظريات، والأهم لمَ هناك من يصدقها. النقاش في هذا الموضوع كان بعيداً عن الأكاديميّة البحتة أو التنظير من أعلى، بل تم توظيف أمثلة وحكايات نختبرها يومياً. وهذا ما يطرحه جمال في إشارة إلى النظام السوري وبشار الأسد الذي يراهن على الخوف والرعب من أجل الهيمنة على الأفراد، لكن التلخيص الذي قمت به أنا، مختلف عما نسمعه في البودكاست. فكلمات كالرعب والهيمنة لا تُذْكَر، بل يتم الإشارة إلى أعراضها بأسلوب مُحبب وواضح للجميع، ويرتبط بالخصوصية السوريّة، سواء كانا يتحدثان عن الثقافة الشعبيّة أو تلك الناتجة عن سياسات ثقافية واضحة ويتم الترويج لها.