"قسمة ونصيب"... حب في رسم البيع والفُرجة

14 سبتمبر 2024
مقدمة برنامج "قسمة ونصيب" ريتا حرب (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **برنامج "قسمة ونصيب" على يوتيوب**: يتناول علاقات الجنسين، حيث يتعرف المشاركون، معظمهم من عارضي الأزياء وصناع المحتوى، على بعضهم في بيئة تشبه متجرًا عصريًا، ويتسابقون لإثبات جمالهم ورجولتهم على مدار 100 حلقة.

- **تاريخ البرنامج وتطوره**: انطلق قبل 16 عامًا على شاشة "إل بي سي" اللبنانية، وكانت أمهات المشتركين يشاركن في اختيار الشريك المناسب. يشبه برامج تلفزيون الواقع الأخرى مثل "ستار أكاديمي".

- **نقد البرنامج وتأثيره**: يعرض الحب كمنتج إعلامي، حيث يتم تسليع العاطفة الرومانسية. يعكس هشاشة العلاقات الإنسانية في عصر الحداثة، ويعزز فكرة الحب السائل التي تحدث عنها زيغموند باومان.

ماذا يريد الرجل؟ امرأة سمراء طويلة، أو ربما شقراء متوسطة الطول، بشعر طويل وعينين ملونتين. ماذا تريد المرأة؟ جلّ ما تريده هو رجل ثريّ... دعوة إلى مطعم راقٍ... هدايا فاخرة. هل تتساوى المرأة بالرجل؟ بالطبع لا. خُلقت النساء ليكرّسن أنفسهنّ للعناية بجمالهنّ، أما الرجل قيجني الأموال والمناصب الرفيعة والتقدير الاجتماعي الذي يمكّنه من الحصول على أكثر النساء جمالاً.

يدور حوار بين المشاركين والمشاركات في برنامج "قسمة ونصيب" (يُبثّ على يوتيوب) حول هذه المحاور التي تتعلق بعلاقة الجنسين. في جلسات تعارفهم الأولى ومع تعريفهم بأنفسهم، يصطف المشتركون الذين يعمل معظمهم في مجال عرض الأزياء وصناعة المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي. تأتي كل امرأة وتشير إلى الرجل الذي تود التعرف إليه وكأنها تقف أمام فاترينة في متجر عصري، وتبدأ المواعدة. في البداية، يتفق المشتركان اللذان قرّرا البدء بالمواعدة على أفكارهما، فربما هذا التقارب "الفكري" يدفع "قصة الحب" هذه نحو النجاح، ومن بعدها يبدأ التحدي ويستمر على مدار 100 حلقة، وفيها ينطلق سباق عنيف نحو إثبات التفوق الأنثوي في الجمال وأسلوب الكلام المغناج والتفوق الذكوري في الفحولة والرجولة، فالنساء يتسابقن نحو الرجل الأكثر جاذبية، ويكتفي الرجال بمراقبتهن عن بعد والتظاهر بعدم الاهتمام.

من بين ما يقرب من عشرين مشاركاً، قد يقع اثنان في الحب، ويحصلان على لقب "أفضل كوبل"، إضافةً إلى جائزة مالية بقيمة 30 ألف دولار أميركي، وعرس فخم للاثنين اللذين لم يمضِ على تعارفهما سوى شهر ونصف الشهر، أمضياه في تصوير البرنامج وفي المشكلات الكلاسيكية التي يأتي بها الحب معه من غيرة، وشكوك حول الخيانة، وإثبات ذات ومحاولة دائمة للفت أنظار الحبيب، إلى جانب بكاء وصراخ وضحك مبالغ فيه، ورقص مباغت على أنغام أغنية واحدة تتكرّر بين الفينة والأخرى، مؤلفة من جملتين تقريباً "أوقع بالحب" و"يدق القلب".

تعرّف مقدمة البرنامج ريتا حرب (الممثلة اللبنانية التي نالت شهرة واسعة من خلال أعمال الدراما المعرّبة) المشتركين بقوانين البرنامج وأبرزها "يُمنع الحديث في الدين والسياسة". إذن سقط من التابوهات الثلاثة الجنس. هل يُسمح الحديث في الجنس؟ على الأقل يسمح بالتلميحات الجنسية، والتصوير الفج لأجساد المشتركات نصف العاريات.

فرضية البرنامج ليست جديدة، ولا حتى عربياً، فبرنامج "قسمة ونصيب" ذاته انطلق قبل 16 عاماً على شاشة "إل بي سي" اللبنانية، في الطور الذي كانت المحطة تتحول لتصبح ملكية سعودية، بالتحديد حين اشترى الوليد بن طلال أكثر من 85% من أسهمها عام 2006. كان "قسمة ونصيب" الماضي يتلافى أن يُتّهم بخدش الحياء العام عبر دعوة أمهات المشتركين معهم إلى البرنامج، لتقرّر الأم مع ابنها أو ابنتها الشريك المناسب. قبل "قسمة ونصيب"، عرض على الشاشة نفسها برنامج تلفزيون الواقع الأشهر عربياً "ستار أكاديمي"، حتى أن إدارة المحطة قرّرت حجز قناة خاصة على الأقمار الصناعية، لعرض يوميات المشتركين على مدار 24 ساعة. ولو أن "ستار أكاديمي" انطوى على مبرّر أكبر لمشاهدة كواليس حياة هؤلاء المشتركين، فهم في النهاية سيتحولون إلى نجوم، ما أشبع رغبة الجمهور في توقّع من منهم سيصبح من مشاهير العالم العربي في نهاية المطاف، فالمشاهد قد يظن أنه على علم بخفايا عالم النجوم وكيف يتحدثون في يومهم العادي، وآرائهم في الحب والعلاقات، بعيداً عن أضواء الشهرة وتكلّف البرامج الحوارية.

تلفزيون الواقع من شأنه أن يوهم المشاهدين بمصداقية ما يشاهدونه وينزع عن المحتوى صفة الزيف، متماهين لأقصى الدرجات مع ما يُقدّم، كأنهم يتلصصون من ثقب المفتاح على عالم غرائبي مصمّم بدقة. وكما هو الحال في الدراما السورية اللبنانية المعربة، المنسوخة عن الدراما التركية، حتى في أداء الممثلين ونبرة صوتهم ولهجتهم التي تبدو وكأنها مدبلجة، نُسخ هذا البرنامج من برنامج قبله صُوّر في تركيا، وحاكى الأسلوب الاستعراضي للبرنامج التركي. 

بهذا، نحن أمام استعراض الملابس وتسريحات الشعر، واللايف ستايل، والديكورات الفخمة في الفيلا التي يعيش فيها المشاركون، واستعراض أخلاقيات هذا المجتمع الهجين والافتراضي، والأهم من كل ذلك استعراض الحب المنتج عبر الإعلام، في عالم فوق-واقعي أو واقعي فائق (Hyperreality) وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بودريار.

يفترض مشاهدو برامج تلفزيون الواقع أن العالم الواقعي تحوّل إلى مشهد، فيحل العالم المستنسخ مكان الحقيقي، وتنتزع عناصر كبيرة من الواقع لتبقى المحاكاة المعروضة عبر الميديا صورة مضخمة أحادية ومسطحة، محملة بأيديولوجيا خفية تقف خلفها، ترغب في تسليع كل شيء، حتى العاطفة الرومانسية وتطور أدواتها لـ"بيع الهواء"، فالحب أيضاً يرغب الجمهور أن يرى كيف يُباع. مع ذلك، يشير المشتركون إلى أنهم ما كانوا ليختاروا الشريك هذا في الحياة الواقعية، إلّا أنهم قرّروا الدخول في لعبة تحول الحياة الاجتماعية إلى عرض مصور ببراعة، لا يتلاقى مع الجوهر الحقيقي للحياة، وإن كان الفيلسوف الفرنسي جي ديبور قد تحدث عن "مجتمع الاستعراض"، بعيداً عن العالم المقدم عبر الميديا، إلا أنه يربط بين الاستعراض وشروط الإنتاج ويقول: "في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات".

والمشاركون المتعطشون إلى الشهرة معظمهم آتون من عوالم الاستعراض ذاتها التي أفرزها المجتمع الحديث، ويؤدون تمثيلية طويلة تشتبك فيها العلاقات، معلنين من دون استحياء عن أعتى جوانب شخصياتهم ظلمةً، كالنميمة وحياكة المكائد.

في "قسمة ونصيب"، يجتمع العشّاق في فيلا كبيرة تغلق بواباتها عليهم، وتبدأ المشاحنات. في الحلقة الأولى يتوقع المشاركون أن يكونوا أسرة واحدة، وينتهي البرنامج ولا تنتهي الشتائم والملاسنات، فمن نتائج البرنامج أن الفضاء الرقمي سيستوعب كل هذه الخلافات إلى حين أن تضيع في الركام المعلوماتي. كل شيء في فيلا الحب هذه يوحي بالتسطيح الخانق، فالحب هنا هو اتفاق بين شخصين غايته مجموعة من المكاسب المادية، والشهرة، وكسب الملايين من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين لا يريدون لهذا الحب الاستعراضي وهذه العلاقات الافتراضية أن تنتهي.

يجتمع في الفيلا التي يطلق عليها اسم "جزيرة الحب" عشرات العرب من جنسيات مختلفة، ويزجون أنفسهم في فضاء يشبه غرف الدردشة على الفضاء الرقمي أكثر منه الحياة الواقعية، ويعلم الجميع، بما فيهم المشاهد اليقظ، أن الحب هنا جسر عبور نحو مزيد من الشهرة وجني الأموال، وهكذا يبلغ الحب أقصى درجاته سيولةً، إذ يفوق سيولة العلاقات التي يتحدث عنها زيغموند باومان في كتابه "الحب السائل".

الحب في "قسمة ونصيب" معروض للبيع، مبهرج، ومجرد. يتحدث باومان في كتابه هذا عن سهولة الوقوع في الحبّ في عصر الحداثة، وسهولة الخروج منه ما إن انتفت ظروفه. حب مؤقت لا مشكلة في أن ينتهي بعد شهر أو اثنين أو بضعة أيام. ولا يشعر أصحابه بأي وطأة لزواله، فالبرنامج الذي يتابعه ملايين العرب هو مثال صارخ عن هشاشة العلاقات الإنسانية التي تحاول وسائل الإعلام عن طريق الدراما وبرامج تلفزيون الواقع أن تصدرها لعشرات الملايين من المشاهدين العرب.

المساهمون