خريبكة نهاية الثمانينيات مدينة منجمية وسط المغرب، تندر فيها وسائل الترفيه وفضاءات الثقافة. لا ملجأ يؤوي آنذاك تعطّش طفلٍ مثلي وشوقه إلى المعرفة والترفيه، ما عدا "دار شباب" صغيرة ومحدودة الإمكانات، كانت تضيق بشباب المدينة، رغم حيوية جمعياتها في مجالاتٍ، كالموسيقى والمسرح، ومسبح كبير يفتح أبوابه بداية كلّ صيف. قاعتا السينما الوحيدتان، "لوكس" و"ميتيور"، شهدتا تقهقراً تدريجياً، مَسّ مرافقهما وأثاثهما، ثمّ برمجتهما التي أصبحت تقتصر على أفلام حركةٍ سمجة، أو أعمال إيروتيكية من الدرجة الرابعة، تُعرض غالباً في نسخ متدهورة، بحكم قاعدة التراتبية التي تشاء ألاّ تصل بكرات الأفلام إلى المدن الصغيرة إلاّ بعد أنْ تكون جالت معظم قاعات المدن الكبرى، مع كلّ ما يقتضيه ذلك من قصّ ولصق في الأشرطة، من المُكلّفين بالعروض، حتّى يوشك مرتادو القاعات الصغيرة، في المدن القاصية، ألاّ يشاهدوا سوى نصف الشريط الأصلي، أو أقلّ، عندما تصل إليهم البكرات أخيراً، بعد عام أو عامين من تاريخ خروج الفيلم.
الجمهور الذي أضحى يرتاد هذه القاعات صارت غالبيته من العاطلين من العمل والمتسكّعين، حتى يكاد لا يخلو عرضٌ من الشّجار والصّراخ والفوضى. وضعيةٌ أثّرت على سمعة قاعات السينما عموماً، فافترقت الطرق بينها وبين العائلات التقليدية والمحافظة، إلى حدّ ما، كعائلتي.
لعلّ إقدام والدي على اقتناء "قارئ أشرطة الفيديو" نهاية الثمانينيات، رغم غلاء سعره نظراً إلى إمكاناتنا، ينبع (جزئياً ربما) من حرصه على ثنيي وإخوتي عن الذهاب إلى قاعات السينما، في ظروفها المزرية هذه. بعد أنْ شاهدنا، إلى حدّ التخمة، "عمر المختار" و"الرسالة" لمصطفى العقّاد، الشريطان المرافقان لهذا الـ"القارئ"، انفتحنا على استئجار أشرطة من "نوادي الفيديو" التي بدأت تنتشر في كلّ الأحياء، فاكتشفنا أفلاماً هندية، كالجوهرة "أمّنا الأرض" الذي سلب ألبابنا بألوانه الزاهية، وشحنة الميلودراما القوية المنبعثة منه، أو الفيلم المصري "هنا القاهرة"، بطولة محمد صبحي الذي صار نوعاً من "فيلم رأس السرير" (بتعبير الفرنسيين) بالنسبة إلى العائلة، لأنّنا شاهدناه عشر مرّات في ليالي سمرنا، وكنّا نعرضه لكلّ من يزورنا من أقارب ومعارف، لنشاهده بأعينهم من جديد.
كم كان مفيداً أنْ نتبادل الأشرطة التي نتوفّر عليها، مع جيراننا الوحيدين الذين كانوا يتوفّرون على "قارئ" جلبه والدهم من مهجره في إسبانيا (النشاط الاقتصادي الثاني للمدينة، بعد منجم الفوسفات)، إذ كنّا نقرضهم فيلمي العقّاد، أو الأشرطة التي كنا نكتريها، ويقرضوننا أفلاماً أميركية، كنتُ أشاهدها غالباً مع إخوتي الذكور، تجنّباً للإحراج الناجم عن متابعة بعض لقطاتها الحميمة مع أخواتي ووالديّ. هكذا اكتشفنا روائع الحركة ودراما الخيال العلمي مع أرنولد شوارزينغر في "تيرميناتور" بجزأيه و"بريداتور"، وسيلفستر ستالون وأبرز أفلامه "روكي" بأجزائه الأربعة، مع امتياز بيّن للجزء الرابع، لأنّنا لم نكن نملّ من مشاهدة انقلاب أطوار المباراة لصالح الملاكم الأميركي، بعد تفوّق العملاق الروسي في البداية.
لعلّ الخط الرابط بين اكتشافي "رامبو: الدّم الأول"، للكندي تيد كوتشيف، في تلك الفترة، ومشاهدتي "استيقاظٌ في فزع" (تحفة المخرج نفسه، المُنجزة في أستراليا قبل التحاقه بهوليوود) ـ بعد مضي ربع قرن كامل، تخلّله تراكم مشاهدة ومطالعة عصامية، واحتكاك في منتديات النقاش على الإنترنت (النوادي السينمائية لجيلي)، قبل الدور الحاسم الذي لعبته المهرجانات ـ يشكّل (هذا الخط الرابط) قوساً مُعبِّراً عن تطوّر سينيفيليتي.
لكنّي، يوم شاهدتُ، عند بلوغي نحو 10 أعوام، أكثر الأفلام تأثيراً عليّ، لم أكن أعرف بعد حتّى معنى كلمة "مخرج". تشاء الظروف أنْ أتابعه صدفةً على قناة تلفزية أرضية، في المرحلة التي سبقت انتشار قنوات الساتل، وتزامنت مع بداية أفول نجم كاسيت "في إتش إس". كان ذلك بعد زوال يوم صيفي، بداية التسعينيات. كل من يعرف قيظ خريبكة يعلم عمّا أتحدّث: شمسٌ حارقة، ورياحٌ شرقية تلفح سخونة. لا طير يطير، ولا وحش يسير في الخارج. حتّى حيطان المنازل تلهبك ما إنْ تلمسها.
كنتُ منزوياً في بهو الطابق الثاني أتابع القناة الأولى المغربية بعينين ضجرتين، مُطفئاً الحرّ بقارورة ماء مُثلّجٍ، أمرّرها بين الفينة والأخرى على عنقي، فإذا بمقدّمة برنامج غير مألوف تشدّ انتباهي. اعتقدتُ لوهلة أولى أنّ الأمر يتعلّق بمسلسل كرتوني جديد، لأنّي لم أختبر أفلام تحريك طويلة، ولا أعلم بوجودها أصلاً.
"21 سبتمبر 1945، كان اليوم الذي مُتُّ فيه": جاءت هذه الجملة الافتتاحية، التي لا تزال ترن في أذنيّ ـ رغم أنّي سمعتها مرّة واحدة في حياتي، وأعتبرها الأكثر جرأة في تاريخ السينما ـ لتجعلني أعدّل جلستي، مُقتنعاً أنّ ما أنا بصدد مشاهدته شيء غريب واستثنائي. قائل الجملة هو سيتا، يافعٌ من مدينة كوبي اليابانية، يلفظ أنفاسه الأخيرة، مُستنداً إلى عمود وسط تجاهل المارّة، المنشغلين بقرب وصول القوات الأميركية، في نهاية الحرب العالمية الثانية. يعود بنا "فلاش باك" إلى لحظة تشتّت شمل عائلته، تحت قصفٍ للطائرات الأميركية، قضتْ فيه والدته، بعد أنْ أفلت مع أخته سيتسوكو، ذات الأربع سنوات، ليلجآ في مرحلة أولى إلى عمّتهما، ويسلماها كلّ ما يملكان من مؤن. لكنّها تبدأ بلومهما وتقريعهما عند كلّ وجبة، إلى أنْ يجدا نفسيهما مجبرين على الرحيل، والعيش في ملجأ ضدّ القنابل، قرب بركة آسنة.
بدأت المشاهد الآسرة تتوالى. وجدت نفسي مأخوذاً بالفيلم، كما لم يستغرقني أيّ شيء شاهدته من قبل، فنسيت الحرّ وخريبكة ووجودي نفسه، بطريقة لم يسبق لي أن خبرتها. في ما بعد، علمتُ أنّ الفيلم اسمه "قبر اليراعات" (Grave of the Fireflies,1988)، للياباني إزاو تاكاهاتا (1935 ـ 2018).
مَعلمةٌ في تاريخ سينما التحريك، دُبلجت إلى العربية في الأردن، بعنوان "سيتا الحنون". يُفترض بهذا الفيلم أنْ يُمنع على الأطفال دون 12 سنة، على الأقلّ (كما تنصح بذلك عدة صفحات مختصّة)، نظراً إلى قتامة أجوائه، وقسوة أحداثه المغرقة في الواقعية. لكنّ قناة دار البريهي لم تكترث لاعتبارات كهذه، آنذاك.
على الرغم من أنّ الحكي يتبنّى وجهة نظر سيتا، فإني أتذكّر أنّي تماهيت مع شخصية سيتسوكو، إلى درجة أنّي أصبت باكتئاب لمدة تجاوزت الأسبوع. اليوم، مع المسافة والتأمّل، أعتقد أن قوّة الفيلم ترجع أساساً إلى نقطتين: طابع الواقعية في وصف أجواء الحرب العالمية الثانية في اليابان، بالاهتمام بالتفاصيل الرسومية بإشراف ميشيو ياسودا، مسؤولة التحريك والألوان التي اشتغلت على أعمال أبرز نجاحات استديو غيبلي (سفر شيهيرو، والأميرة مونونوكي، وقلعة هاول المتحركة، مثلاً)، ثمّ تركيز الفيلم على مشاهد توضح استمتاع سيتا وسيتسوكو بلحظات السعادة البسيطة التي جمعتهما على ضفاف البركة، في انفلاتٍ عابر وهشّ، زمن الحرب وفضاءاتها، يتابعها المشاهد بقلبٍ منقبض، كونه يعلم جيّداً ـ نظراً إلى المقدّمة ـ أنّها لن تدوم، وأنّ نهايةً حزينة ومؤلمة تنتظره حتماً.
فكرةٌ تُعبّر عنها، ببلاغة، لازمة اليراعات المضيئة التي تعبر الفيلم من بدايته إلى نهايته، وتمنحه عنوانه، خاصة في المشهد المؤثّر الذي يؤطّر وجه سيتسوكو البريء، وتساؤلها باكيةً، بعد أنْ تكتشف أنّ اليراعات التي ملأت ليلتها بهجةً تقضي نحبها بحلول اليوم الموالي: "لماذا ينبغي أنْ تموت اليراعات بهذه السرعة؟"، كأنّها تتساءل عن مصيرها المحتوم نفسه، أو عن مآل لحظات السعادة العابرة، التي جمعتها بأخيها.
لم تغادر نظرة سيتسوكو، في هذا المشهد، مُخيّلتي في الأيام التالية للمُشاهدة. كنتُ أعلم أنّ الفيلم تخييلي، طبعاً، رغم أنّه مقتبس من قصّة قصيرة لأكيوكي نوزاكا، ضمّنها تفاصيل صادمة بقسوتها من سيرته الذاتية. لكنّي لم أستطع منع نفسي من التفكير في أنّ أموراً تُشبه هاته، أو أفظع منها، حصلت حتماً في تلك الحرب، والحروب الأخرى التي شهدتها الإنسانية، وذهب ضحيتها مئات آلاف الأطفال، مثل سيتسوكو. ظلّ صوتٌ يهتف داخلي: هناك خطبٌ ما غير سوي في هذه البشرية التي سبّبت نهاية مأسوية لصبيّة، لم يفنَ بعد مخزون دهشتها البريئة أمام يراعات مضيئة، وعشقها للحلوى المُشكّلة حين تختلط بالماء.
اقتنعتُ باكراً أنّ قيماً كثيرة، يتشدّق بها الكبار، لا تعدو كونها شعارات زائفة. لعلّ هذه كانت أولى الصدمات التي توالت بعد ذلك، وأفقدتني ـ شيئاً فشيئاً ـ الثقة في قدرة الإنسان على تشرّب قيم السلام والمحبة، ونبذ كلّ نوازع الحرب والدمار. أظنّ أنّ تجربة مُشاهدة هذا الفيلم تتمثّل بأنّها المرّة الأولى التي أعي فيها الفرق الكبير بين أعمال السينما وأعمال التلفزيون، عندما أدركتُ أنّ ما شاهدته للتّو يختلف، جذرياً، عمّا اعتدتُ رؤيته آنذاك من مسلسلات كرتونية تلفزيونية، ليست سيئة عموماً، لكنّها لا ترقى إلى درجة الأعمال السينمائية.
بعدها، شاهدتُ أعمالاً عدّة تُرافع ضد الحرب، واقتنعتُ أنّ أكثرها تأثيراً تلك التي تنهج مقاربة أخذ خطوة إلى الجانب، لتمثّل النتائج المأسوية للحرب، من دون الغوص كلّياً في أجوائها، فتبقى النزاعات الدامية نوعاً ما خارج الحقل، لنتلقّى تداعياتها كلكمة خطّافية، لا نشفى من وقعها أبداً. أذكر منها: "جوني حمل سلاحه" (1971) لدالتون ترمبو، و"سُلّم يعقوب" (1990) لأدريان لين. لكنّ رائعة تاكاهاتا تبقى أعظمها، وأنا مُقتنعٌ أنّ السياسيين الذين يرون في الحرب وسيلة ناجعةً لحلّ مشاكلهم وبسط نفوذهم وتحقيق مآرب سياسية واقتصادية، وجميع داعمي توجّههم هذا، ما كانوا حتّى ليفكّروا في ذلك، لو أنّهم حظوا بفرصة/لعنة مشاهدتها في سنٍّ صغيرة.
لم أشاهد "قبر اليراعات" ثانية. كلّما التقطتُ "دي. في. دي" الفيلم، وهممت بدفعه إلى "القارئ"، تجتاحني مجدّداً هواجس المُشاهدة الأولى، فأعيده إلى مكانه في المكتبة. يوماً ما، سأتغلّب على هذا الحاجز النفسي، وأعيد مشاهدته. لكنْ ليس بعد... ليس بعد.