أكثر ما يلفت الانتباه في البيان العائلي، الذي يعلن رحيل الممثل والمخرج والمنتج الأميركي كارل واثرس، في 1 فبراير/شباط 2024، كامنٌ في أنّه "صديق محبوب". هذا وصفٌ يختم تعداداً لمواقع مختلفة له، تذكرها العائلة في بيانها، علماً أنّ مفردة "محبوب" تنسحب عليها كلّها: "إنّه الأخ والأب والجدّ والشريك". الصديق حالة وعلاقة تبرزان في أبولّو كريد، الذي يرتبط بصداقة مع روكي بالبُوا (سيلفستر ستالون)، بعد مبارزات كثيرة حاصلة بينهما، في حلبة الملاكمة وخارجها. صداقةٌ تنشأ من وعي كريد أهميتها مع من يُنافسه مراراً على بطولةٍ، إذْ يرى فيه انتقاماً له من آخرين، وتفعيلاً لتوازن حياتي، يحتاجان (كريد وروكي معاً) إليه.
هذا حاصلٌ في الحلقات الـ4 الأولى من سلسلة "روكي"، التي تبدأ عام 1976، مع أول فيلمٍ يُخرجه جون جي. أفيلْدسن، قبل أنْ يتولّى ستالون نفسه إخراج الأفلام الـ3 اللاحقة. سلسلة سينمائية تجد منفذاً لها من روتينٍ وشبه تكرار في سلسلة أخرى، تُطلَق عام 2015 بأول فيلمٍ، "كريد"، لراين كووغلر، الذي يُمنح عنواناً فرنسياً (إرث روكي بالبُوا) يشي بمعنى السلسلة ومسارها المستقبليّ، من دون قطعٍ، فني واجتماعي وعائلي وعاطفي، مع ماضٍ يتألّق فيه أبولّو كريد، وإنْ بدرجةٍ أقلّ بقليل من تألّق روكي، الملتزم حبّاً وصداقة ورغبة في عدم السقوط في فخّ الشهرة والمال.
كريد نفسه غير مُدركٍ أنّ المُقبل في الحياة ـ السلسلة الجديدة (المعروف نوعها نقدياً بـ"سلسلة مشتّقة"، كترجمة حرفية للتعبير الإنكليزي Spin-Off) سيكشف صداقة من نوعٍ آخر، فيه نبض أبوّة يريدها ابنٌ يفقد والده باكراً. فأدونيس "دوني" جونسون كريد (مايكل بي. جوردان) يختبر حياةً قاسية في مراهقته ومطلع شبابه، قبل انتقاله إلى الملاكمة، وتبوّء مراتب عالية فيها، بدعمٍ من "عدوّ" والده أبولّو، وصديقه لاحقاً، روكي بالبُوا. في اختباره الملاكمة، يكتسب كريد معارف كثيرة عن الحياة نفسها، بمواجعها وقلاقلها وكوابيسها وأهوالها ونجاحاتها وأفراحها، أي بتناقضاتها؛ وفي الوقت نفسه يُدرك غير المعروف لديه عن أبٍ وماضٍ، بفضل روكي، الصبور ذي الوفاء الكبير لـ"إرث" صديقه ومُدرّبه الراحل، ولقناعته بإحساسٍ فيه أنّ كريد الابن قادرٌ على غلبة أشباحه ومخاوفه، كما على امتلاك حساسية المُلاكم، وجمالية المُلاكمة.
أبولّو كريد حاضرٌ في هذا، وإنْ من دون ظهور كارل واثرس، الذي يكتفي صانعو الحلقتين الأولى والثانية من السلسة الجديدة، والحلقة الثانية (2018) يُنجزها ستيفن كابل جونيور، بصُور فوتوغرافية له، وبتسجيلات فيديو (هناك حلقة ثالثة يُنجزها جوردان نفسه عام 2023). في مقابل هذا، يظهر واثرس في أفلامٍ أخرى، لن تُشهره بقدر ما أشهرته أفلام "روكي"، رغم أنّ بعضها على الأقلّ مندرجٌ في صناعة تترفّع عن التجاريّ ـ الاستهلاكي البحت، من دون تحرّر كلّي من التجاريّ المشغول بحرفية سينمائية، تجمع التشويق بالرعب، وتُتيح لمضامين انتقادية في الاجتماع والحياة والعلاقات مساحة درامية مقبولة.
واثرس يمثّل في أفلامٍ، يراها النقد متناقضةً إلى حدّ ما في مستوياتها ومضامينها وأنواعها: "لقاءات قريبة من النوع الثالث" (1977) لستيفن سبيلبرغ، أقدر مخرجي "هوليوود الجديدة" على صُنع أفلامٍ تجارية بنَفَسٍ إنساني تأمّلي فكريّ ما (من دون إغفال صديقه جورج لوكاس)؛ و"المفترس" (1987) لجون ماكتيرمان، "سيّد أفلام التشويق"، بحسب بيان إدارة "المهرجان الدولي لأفلام الفانتازيا في نوشاتل"، المُكرَّم في دورته الـ22 (30 يونيو/حزيران ـ 8 يوليو/تموز 2023)، أو "تينور سينما التشويق" بحسب مقالة غير موقّعة (29 يوليو/تموز 2022)، منشورة في الموقع الإلكتروني RTS. وصفان يليقان بأحد أهمّ صانعي سينما التشويق، ومطوّريها والمُقرِّبين إياها، أكثر فأكثر، من حداثةٍ وعصرنة.
هناك أيضاً "القوة 10 من نافارو" (1978) لغي هاملتن، وDeath Hunt لبيتر هانت (1981)، و"أكشن جاكسن" (1988) لكريغ آر. باكسلي، و"سفن حربية أميركية" (2012) لثاندر لِفِن، وغيرها: "متأسفون للغاية بإعلان وفاة كارل واثرس"، تقول العائلة، التي تُضيف في بيانها أنّ كارل "رجلٌ استثنائي، عاش حياة استثنائية"، وأنّه، "بفضل مساهماته في السينما والتلفزيون والفنّ والرياضة، ترك انطباعاً لا يُمحى، معروفاً في العالم، ولدى كلّ الأجيال". في الرياضة، يمارس كرة القدم الأميركية، قبل أنْ يلتزم السينما كلّياً، بدءاً من سبعينيات القرن الـ20، وفيها يؤدّي أدواراً صغيرة وعابرة، خاصة في سلسلة أفلام متعلّقة بالسود، قبل انتقاله إلى مرحلة "روكي"، وما بعدها.
المجلة الأميركية "فارايتي" (3 طبعات ورقية، واحدة يومية واثنتان أسبوعيتان، كلّها مختصّة بـ"صناعة الاستعراض") تقول، في رثائها إياه، إنّ الرياضيّ قبل الممثل "متنوّع الرياضات": ملاكمة وكرة قدم ومصارعة وجمباز. في اليوم التالي على رحيله، يكتب إيثان شانفلد فيها أنّ واثرس (نيو أورليانز، 14 يناير/كانون الثاني 1948) مُمارس لكرة القدم في جامعة ولاية سان دييغو، يُساعد فريق "أزتيك" على الفوز ببطولة "باسادينا باول" عام 1969: "أثناء وجوده في تلك الجامعة، ينال أيضاً شهادة في فنّ المسرح".
"خسرنا أسطورة. حياتي مُتغيّرة كلّياً نحو الأفضل، منذ لقائي كارل واثرس"، يقول سيلفستر ستالون في وداع الممثل. قراءة هذا تُذكِّر بقول لروكي أمام كريد الابن، الذي يحاول إقناعه ببدء العلاج من مرض سرطانيّ، إذْ يستعيد الملاكم الكهل فصولاً من حياته قائلاً إنّ أحبّةً له راحلون في أوقاتٍ مختلفة، فيبدو كأنّه غير راغبٍ في حياة مقبلة. أحد هؤلاء أبولّو كريد. الآن، لعلّه ينظر إلى تاريخه، وهو يودّع صديقاً آخر.
كم هذا مؤلم، في كلّ الأوقات، وفي كلّ الأعمار.