في رحيل الجزائري إبراهيم تساكي: سينما التفاصيل الحميمة والرمزية

11 سبتمبر 2021
المخرج إبراهيم تساكي رحل عن 75 عاماً (فيسبوك)
+ الخط -

غيّب الموت يوم الخميس الفائت (9 سبتمبر/ أيلول 2021)، المخرج الجزائري إبراهيم تساكي (مواليد سيدي بلعباس، 1946)، المعروف بأعماله الحميمة المعتمدة على الصمت والرمزية، وعلى إبراز صراع الشمال والجنوب.

درس تساكي في "مدرسة الفنون الدرامية" في "برج الكيفان" (الجزائر العاصمة)، ثم التحق بـ"المعهد العالي لفنون البث" في Louvaine La Neuve (بلجيكا)، حيث حصل على دبلوم الإخراج عام 1972.

عام 1978، عُيِّن في "المعهد الوطني للتجارة والصناعة السينمائية" في عاصمة بلده، وبدأ كتابة وإخراج أفلام خيالية، حصلت على جوائز عديدة، منها الروائي القصير "علبة في الصحراء" (1980)، و"أطفال الريح" (1981)، و"أيرُوَان، ثمالة رحلة داخل الحبّ" (2006).

فيلمه القصير "محطة الفرز" (1975) يحكي قصّة طفل صغير يدرس في بلجيكا، تنهار أحلامه بسبب توجيهه إلى التكوين المهني، فيخطف المسؤول الأول عن الشرطة في المدينة.

أما "أطفال الريح"، فيتضمّن 3 قصص: "علبة في الصحراء"، عن أطفال سيدي يعقوب الذين يجمعون النفايات القصديرية لصنع آلات مجهرية، و"جمال في بلاد الصور"، عن مغامرات طفل مطرود من المدرسة، يبيع ورد الرمال، ويواجه عالمين، عالم الصُور، من خلال التلفزيون الذي يقدّم له وعوداً ومغامرات، وعالم الواقع الذي يعيشه يومياً، في مقابل تطوّر مجتمع يحاصره بين هذين العالمين، و"بيض مسلوق"، عن طفل يبيع بيضاً مسلوقاً في الحانات، متناولاً خيبة أمله إزاء أبيه، بائع الألعاب، والممثل الذي أصبح نجمه المفضّل وبطل أحلامه، فيُصدَم به عندما يقابله في حانة، فيراه عربيداً غارقاً في طوفان الحياة. تتحطّم الصورة الجميلة باكتشافه وجهه الحقيقي، وما يعانيه من تمزّق وتشتّت.

نظرة قاسية لواقع الصبي في مواجهة الناس والأحداث في الحياة، تنتهي بانهياره عند رؤيته أبيه وهو يلهو بطريقة طفولية بالدمى التي لها شكل الفئران.

"قصّة لقاء" (1983) عن طفل أبكم وأصم، ابن فلاح جزائري، وطفلة بكماء وصماء، ابنة مهندس أميركي، يلتقيان قرب قاعدة بترول، فتنشأ بينهما صداقة وثيقة.

"أطفال النيون" (1990) يروي قصّة شابين، جمال وكريم، أصمين وأبكمين من أصل مغاربي، يعيشان في حي متاخم للمدينة. في أحد الأيام، ينقذ جمال شابّة من محاولة اغتصاب، فتنمو بينهما قصّة حبّ، تُهدده الكراهية العنصرية.

عام 2010، بعد غياب طويل عن العمل السينمائي، عاد تساكي بفيلم "أيرُوَان"، التي تعني باللغة العربية "يُحكى أنْ"، والمُصوَّر باللهجة الطارقية الجزائرية.

أعطى في فيلمه هذا روحاً فنية عالية، وكان تعبيراً عن صورة فنية ناجحة، من حيث الترتيب بين الفكرة والصورة الاحترافية العالية في حركات الكاميرا، وزوايا التصوير، والمزج بين عمق الصورة وبانوراميتها، التي أعطت قوّة للفضاء والطبيعة. الصورة الخلاّبة الأخّاذة، والتكوينات البصرية المدهشة، نتاج تعاون متكامل بين تساكي ومُصوّره أحمد مسعد، الفائز بجائزة أفضل تصوير عن هذا الفيلم، في "مهرجان وهران السينمائي".

عام 2010، بعد غياب طويل عن العمل السينمائي، عاد تساكي بفيلم "أيرُوَان"، التي تعني باللغة العربية "يُحكى أنْ"

بالإضافة إلى التقنيات التي أظهرت المستوى الفني، هناك نص قوي ذو أبعاد ثقافية، تتضمّنها قصة إنسانية متداخلة بين الحبّ والحنين والتمزّق الحاصل في العالم الثالث. فيه، يجول بعين سينمائية ذات حضور آسر في الصحراء الجزائرية الشاسعة، حيث تتكاثف حبّات الرمال الذهبية بأساطيرها الممزوجة بمروءة الرجل الأزرق وشهامته وحبّه الصادق الأزلي. حكاية تستلهم أجواء جزائرية عميقة، يضعها في مقابل شخصيات ذات ثقافات مغايرة.

"أيرُوَان" قصّة عاطفية درامية، تجمع بين أمسياس، الرجل الطارقي ابن الصحراء الشاسعة المنتمي إلى العالم الثالث، وكلود، الفتاة التي نشأت وترعرعت في إحدى المدن الأوروبية، وفتحت عينيها على رمال الصحراء.

يلتقيان في الصحراء، التي منحتهما بدايةً للإبحار في عالم التناقضات، فأصبحا صديقين قبل أنْ يتحابّا. ويكشف الفيلم قصّة حبّ قديمة كانت تربط الفتاة مينة، ابنة المنطقة (الممثلة الفلسطينية ياسمين المصري) بأمسياس، لكنّ القدر فرّق بينهما، فتحوّلت فكرة زواجهما إلى سراب، كون مينة أخته بالرضاعة، ويستحيل الزواج بها، لتبدأ معاناتهما، فيلتقي كلّ واحد منهما شريكاً آخر يقاسمه الحياة، بحثاً عن بديل.

غير أنّ حبّهما أزليّ، فأفقدهما متعة العيش بعيداً عن بعضهما، ويضطر أمسياس للرحيل إلى أوروبا ملتحقاً بكلود، ويجد معها المتعة الجسدية، بينما الروح مع مينة. وجوده في أوروبا زاده تعلّقاً بها. بينما بقي والد كلود في الصحراء بحثاً عن الماء، ويوقّع عقداً مع إبليس، كما قال، فخبّأ مواد سامة لوّثت الماء.

الصحراء، والصراع بين الشمال والجنوب ملمحان أساسيان في أفلام إبراهيم تساكي

يعود أمسياس مع كلود إلى الصحراء، بعد وفاة يوسف الأصم إثر شربه ماء الجبل، ما دفع بأمسياس إلى الجبل الملعون، محاولاً اكتشاف السرّ المخبّأ فيه، حيث يموت، أو يصاب بالجنون كلّ من يقصده ويحتسي قليلاً من مائه، والمجنون يموت بعد أيام عدّة. يكتشف رجال الصحراء أنّ الماء لوّثه رجال الشمال، الذين قدموا إلى الصحراء ودفنوا فيها مواد مشعّة في إطار تجارب نووية.

القصّة مزجها إبراهيم تساكي بدلالات فنية، لها أثر في تناسق الفيلم، الذي اعتُبر نموذجاً للسينما الجزائرية الجديدة، العائدة من عمق الصحراء، ليفتح قوسين بحثاً في عمق الفكرة ذات المعاني العديدة، التي تُعبّر عن تركيب العقل والذات، والحاضر والماضي.

وتمثّل الصحراء بُعداً مهمّاً، فهو اختارها مفتاحاً لتوليد الكادر المصنَّع بحساسية بصرية، طارحاً تساؤلات مُقلقة ومضنية، تصل إلى آفاق تتعلّق بالوجود الإنساني نفسه ومغزاه، في علاقته بالآخر.

كذلك يتناول تساكي مسألة الحوار بين الشمال والجنوب، الذي يعتبره غير عادل، مُلمّحاً إلى الطريقة الجائرة التي ينتهجها الغرب في أخذ ثروات أراضينا، وفي مقابل ذلك يفرغون فيها النفايات والسموم.

المساهمون