يُعيد فيلم Poor Things، للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، الأمل بالسينما بوصفها تجسيداً حديثاً ليوتوبيا "الفن المتكامل" (Gesamtkunstwerk) كما تطلّع إليها المؤلف الموسيقي والكاتب المسرحي الألماني ريتشارد فاغنر، الذي اجتهد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تأسيس مسرح غنائي ثوري. لأجله كتب النصوص، وضع الألحان، صمّم عدداً من الآلات الموسيقية وبنى دارَ أوبرا في مدينة بايروت جنوبيّ ألمانيا، وفق مواصفات عمرانية خاصة، كل ذلك بهدف خَطْف الجمهور إلى غياهب كونٍ موازٍ، مادته الأسطورة وروحه الفن.
حيال الاختراقات التكنولوجية المتسارعة والتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية المرافقة لها، تقف سينما اليوم بصُنّاعها وممثلّيها وشركات إنتاجها حائرة حيال القادم من الأيام، ومستقبل الفيلم السينمائي بوصفه "فنّاً متكاملاً": هل تُعرض الأفلام بدور السينما أم على الهواتف واللوائح الذكية في الإنترنت ومن طريق خدمة الستريمنغ؟ هل تكفي الشاشة السينمائية التقليدية لأجل منح المشاهد أمثل تجربة انغماسية، أم أن الجيل الجديد بات ينشد وسائل أكثر تطوّراً تحقق تجارب أكثر اكتمالاً، كأفلام الأبعاد الثلاثة، أو ألعاب الفيديو، وإمكانات الواقع التوليدي والافتراضي؟
بمشاهدة فيلم لانثيموس الأخير، أو حضور أوبرا لفاغنر أُلّفت قبل قرابة المئة وخمسين عاماً، يُمكن الاستنتاج بأن حدود التقانة التي تفرضها حقبة زمنية، لا تُقيّد فناً من الفنون، بل تُميّزه. فالإحاطة الجمالية الشاملة بوسيط فنّي والعناية إلى حدّ الهوس، بكلّ حيثيات إنتاجه وإظهار ملامح الفكر المُتّقد حيال كلّ عنصر من العناصر المكونة له، بدءاً بالنص، فالتمثيل، ثم سيرورة التصوير من تصميمٍ للمشاهد وأُطر اللقطات، إلى انتقاء للعدسات والإضاءة، التي يعتمد لانثيموس دوماً الطبيعي منها، انتهاءً بالأزياء حتى أنماط الخط الذي كُتبت بها شارة المقدمة والخاتمة، تتضافر جميعاً لأجل غاية رئيسية لا تخضع للتكنولوجيا، بل تقترن بالإبداع، ألا وهي صناعة الدهشة.
تشمل عناصر الدهشة أيضاً الموسيقى المُصاحبة. لأجلها، اختار مُخرج Poor Things التعاون مع فنان موسيقى البوب البريطاني جيرسكين فيندركس (Jerskin Fendrix)، ابن الـ29 عاماً. ويُعدّ فيندركس من وجوه ما بات يُعرف اليوم بتيار "الموسيقى الجديدة" (New Music)، التي تُعَدّ حانة وصالة الحفلات "الطاحونة" (Windmill) في حيّ بريكستون جنوبيّ العاصمة لندن حيث ينشط فيندركس، معقلاً لأنصار التيار من موسيقيين ومستمعين، ومنصّةً لأحدث العروض وأكثرها إثارة للجدل بين النقاد والمتابعين.
من أبرز ما يُميّز تيار الموسيقى الجديدة، الخروج على الموسيقى بوصفها صوتاً مُشكّلاً بالفراغ (أي الصمت) ومقاربتها، عوضاً عن ذلك، من حيث ماهية الصوت المحض، أكانت تلك الماهية الأوّلية الفيزيائية أم اللونية التي تتمخَض عنها. هي إذاً نهج تحليلي يدرس أثر الصوت مضموناً وليس شكلاً، ونظرة تفكيكية ترى الموسيقى من منظور الموجة والاهتزاز والامتداد الزمني، الأمر الذي يحقق فيها ملاءمةً للاستخدام السينمائي، بحكم أن مؤلِّفها لا يرى هوية هرمية للصوت الموسيقي تُنزّهه عن بقية أصوات الكون. وعليه، تغدو الموسيقى المُصاحبة في لبّ المكوّن الصوتي العام للفيلم من أصوات ومؤثرات وحوارات.
إلا أن مقاربة فيندركس لموسيقى فيلم لانثيموس خرجت عن تجريدية النهج التحليلي والتفكيكي المغالي لدى نخب الموسيقى الجديدة، لتدنو من دنيا النغمة واللحن بحسب ما تقتضيه مُتطلبات السرد السينمائي. لعلّ توجّهه استجابةٌ فرضتها طبيعة الفيلم الحقبوية، إذ بقدر ما تبدو مشاهده غرائبية، إلا أن أحداثه تدور في فترة تاريخية مستوحاة من الحقبة الفيكتوريّة في إنكلترا، قبل مئتي عام، نظراً لتأثر القصّة المأخوذة عن رواية للكاتب الإسكتلندي المعاصر آلاسدير غري (Alasdair Gray) بأدب الخيال العلمي المبكّر من أوائل إلى أواسط القرن التاسع عشر، مثل "فرانكنشتاين" للكاتبة البريطانية ماري شيللي وروايات الفرنسي جول فيرن. هكذا، كانت المُحصلة هجيناً صوتياً من دون هوية محددة، أقرب إلى مسخ موسيقي من رومانسية كلاسيكية خافتة الحدّة الدرامية وأنماط تجريدية تتداخل مع البيئة السمعية للفيلم، ليس ثمة ما يجمع بينها سوى الفكاهة.
لأجل الشخصية الرئيسية، بيلا، التي أدّتها الممثلة إيما ستون، يتّبع فيندركس مبدأ "المُفردة اللحنية القائدة" (Leitmotif) الشائع استخدامه في المسرح الغنائي الكلاسيكي (الأوبرا)؛ إذ يُصمّم لحنٌ قصير يحمل بصمة شخصية من الشخصيات، ليُدلَّل بواسطته، عند تناهيه على حضورها سواء عند ظهورها على الخشبة أو تواريها في الكواليس. استلهاماً لتكوين بيلا بحسب سردية القصة، بوصفها مسخَ امرأةٍ بالغة زُرع في رأسها مُخّ طفلتها الرضيعة، يستدعي المؤلف صوت آلة الغيتار الطبيعي، تعزفُ بأسلوب مينيماليٍّ مقتضب سلاسل نغمية ذات ملامح طفليّة، إلا أنها تُعاني من انزياحات صوتية تَشذُّ بها عن الدوزان المعياري للسلم الموسيقي، فتُعبّر بشكل هزليّ عن عدم انسجام مقاييس بيلا الجسمية مع ملكاتها العقلية.
تظهر في تراك "الإسكندرية" (Alexandria) علامات الموسيقى الجديدة. يقتضيها الغرض من الموسيقى المُصاحبة لمشهد محدد، إذ وُضعت ههنا لتُعبّر سمعياً عن رحلة على متن سفينة قامت بها بيلا سترسو بها على ميناء مدينة الإسكندرية، حيث ستُعاني هناك من رضٍّ كيانيّ (تروما/صدمة) فور اكتشافها قاعاً لاطوباويّاً بائساً ومرتعاً للفقر والجوع والموت، يستحيل السموّ به وإنقاذ من فيه.
لأجله، تُركّب أطيافٌ صوتية من نُسجٍ مختلفة، منها الآلي الأوركسترالي، ومنها الرقمي الإلكتروني، لا تحمل نسقاً لحنياً واضحاً، بل تُنتج توالداً لونيّاً تجريدياًً يعكس مشاعر الهول التي تُلمّ بالشخصية، فلا تعود آلات الكمان تعزف أنغاماً، بل تصرخ ندباً وعويلاً، تمجّ بشتّى الأصوات المُفزعة التي يُصدرها حيناً أورغٌ كهربائيٌّ، وحيناً قِربةً نفخية.
كان رائد ما بعد الحداثة وأحد الآباء المؤسسين لتيار الموسيقى الجديدة، المؤلف الأميركي جون كيج قد قال ذات مرّة: "ليس من داعٍ لأن تضطلع كل موسيقى بمهمة قصّ حكاية"، بقصد التقليل من قيمة البناء السردي للموسيقى، الذي استغنى عنه معظم المؤلفين ما بعد الحداثيين، بمن فيهم كيج.
يُناسب ذلك التوجّه صناعة موسيقى الأفلام على أكمل وجه، إذ إن حكاية الفيلم، إن كان مُخرجه مُبدعاً مُحيطاً بالثقافة والفنون، إنما تُروى بالوسائل الدرامية والبصرية، ليُكتفى بدور الموسيقى فيه كعنصر واحد من مُجمل العناصر المكونة لعمل فنيّ مُتكامل. وعليه، فإن الحدود التي تقف عندها الموسيقى المصاحبة، إن كان مؤلّفها خلّاقاً واسع المعرفة مُرهف الحسّ، تُصبح أكثر ما يُميّزها ويعزّز من إسهامها، إلى جانب بقية العناصر، في قدرة السينما على صناعة الدهشة.