فيلم "تار": المايسترا تضع لمسات أخيرة على حياتها

01 ديسمبر 2022
يثير فيلم العمل أسئلة حول ديناميكيات القوة وعنف السلطة والعنف النرجسي (IMDb)
+ الخط -

بعد مرور أكثر من 16 عامًا على إنتاجه فيلمًا روائيًا طويلًا، يعود المخرج والممثل تود فيلد (Todd Field) بتحفته السينمائية الجديدة Tár، الذي عرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي، وهو دراما موسيقية تقارب الثلاث ساعات، تلتقط الحياة المتقلبة للفيرتوسو والملحنة الأميركية، ليديا تار (كيت بلانشيت)؛ شخصية من نسج خيال فيلد، تمثل معجزة موسيقية متفردة في التاريخ المعاصر، وإحدى أشهر المؤلفات الموسيقيات على قيد الحياة.
تلتقط الكاميرا حياة تار في ذروتها المهنية، فتستعد المؤلفة مع بداية الفيلم لإطلاق كتابها الجديد Tár on Tár، وتضيف اللمسات الأخيرة على سيمفونية ماهلر الخامسة التي طال انتظارها، كما تغدو أول امرأة تقود أوركسترا برلين الفيلهارمونية. وفقط مع اعتقاد المشاهد بأنه أمام فيلم عن أسطورة موسيقية، تبدأ حياة المرأة مفرطة الإنجازات بالتدهور تدريجيًا، على إثر انتحار طالبتها كريستا تايلور (سيلفيا فلوت)، والكشف عن العلاقة المحتملة التي كانت تجمعهما، ودور هذه العلاقة في الانتحار المؤسف للعازفة الشابة.
ينقل Tár صورة مفرطة في الواقعية عن المشهد الفني المعاصر، حتى أنه يحافظ على الأسماء الحقيقية للمراجع التي تذكر على طول الفيلم، من ملحنين وعازفين أو معدي برامج وصحافيين ومؤسسات تعليمية مرموقة، مثل جوليارد والأوركسترا الوطنية. ويرصد التحولات التي طاولت تلك المؤسسات في ظل صعود السياسات المعاصرة، وبدء مرحلة ما بعد الوباء، وذلك من خلال تقديم دراسة متأنية لشخصية ليديا تار؛ المعلمة صاحبة الآراء العنيفة والسلوك الجنسي المفترس، مركزًا على دور ثقافة الإلغاء في حياة الفنان المكرس والآخر الجديد.
يُفتتح الفيلم بلقطة مزدوجة لليديا وهي نائمة على كرسي في طائرة خاصة؛ الأولى تصورها عدسة المخرج، أما الثانية فتلتقطها عدسة أحد الموجودين على الطائرة، من خلال فلتر "إنستغرام". وينتقل بعدها إلى مساحة أوسع للاستعراض الثقافي المزيف، وهي قاعة محاضرات في مجلة ذا نيويوركر، حيث يستضيف الصحافي من المجلة، آدام غوبنيك، ليديا، مستهلًا مقابلته بمقدمة طويلة تفند إنجازاتها الهائلة على الصعيدين الموسيقي والتعليمي، وفوزها الاستثنائي بالجوائز الأربع EGOT (Emmy Grammy Oscar Tony). وكعادته، لا يخطئ أداء كيت بلانشيت الهائل في نحت الطبقات المتعددة من الزيف والتوتر في خطاب ليديا الإعلامي المتخشب، وترفعها عن المديح المفتعل، على الرغم من استمتاعها الواضح بالضحكات والتصفيق الحار من قبل التلاميذ اليافعين.


ما إن يبرد التصفيق، حتى تتكشف تدريجيًا قصص سوء السلوك الجنسي والممارسات الاستغلالية التي ترتكبها ليديا بحق طلابها وموظفيها. ولا يمضي وقت طويل، قبل أن تخترق تلك الحوادث قاعات الصفوف وخشبات المسارح، لتصل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وتخلق رد فعل عنيفا ضد ليديا، ينتهي بخسارتها لعملها ومغادرتها البلاد بحثًا عن فرص أخرى للعمل بعيدًا عن ضوضاء الفضيحة.
خلافًا للأفلام الأخرى التي ظهرت عقب مرحلة Me Too، يثير فيلم "تار" أسئلة حول ديناميكيات القوة وعنف السلطة والعنف النرجسي وعلاقته بالجنس، ويسمح برؤية المعتدي، وهو امرأة في هذه الحالة، من زوايا مختلفة ومتنوعة، كما ينتزع الناجين من قالب الضحية النمطي، ويشرح التأثير النفسي على أولئك الموجودين في فلك الإساءة الأوسع، كمساعدي وأقرباء المفترس، ليس فقط الناجين.
ينتقد الفيلم القيادة بوصفها دكتاتورية وتفردا في اتخاذ القرارات، فليديا تار تقود الفرق وتنتقي التسجيلات وصور الأغلفة والمنشورات، وتتدخل في سياسات الإدارة وتنظيم الحفلات واختيار الموظفين. سلطتها مطلقة وتأثيرها غير محدود، ما يجعل شراكتها مع المحيطين بها وهمية، تخدم مصلحتها الشخصية فقط. عدم اكتراثها بآراء البقية وترفعها عن مساهماتهم، يضع جودة عملها على المحك أيضًا، ويمهد لسقوطها التراجيدي غير المتوقع آخر الفيلم.
يدعو فيلد إلى النظر إلى شخصية ليديا المتنافرة كلحن لا مقامي، من دون أن يقدم تبريرات مبطنة لسلوكها، فليديا موهبة فذة وقائدة أوركسترا بارعة، لكنها في ذات الوقت نموذج عن شخص يسيء استخدام سلطته لتحقيق غاياته الشخصية؛ إذ تمنح ليديا السولو الوحيد في السيمفونية لعازفة التشيلو المستجدة أولغا ميتكينا (صوفي كاور) لإعجابها بها، وترفض تعيين فرانشيسكا (نويمي ميرلانت) في منصب مساعدة قائدة الفرقة الموسيقية بسبب خلافات شخصية معها.
وحين تجابه بتلك الادعاءات، ترفض ليديا الاستماع إليها وتتهم موجهها بالتحامل والكذب، وتستخدم مهاراتها الفنية ومنصبها رخصة للقسوة والتنمر على منتقديها. تتسلح ليديا بقناعة صلبة للدفاع عن سوء سلوكها الجنسي تحديدًا، إذ يتطرق الفيلم إلى "الهوس الإيروتيكي" و"التحديقة" في مجال الصناعات الفنية، بوصفهما استحقاقًا يشعر به صناع المادة إزاء موضوعات أعمالهم، متسترين بعباءة الخطاب التقدمي الليبرالي وبالحميمية الضرورية لإنتاج العمل الفني. ويوضح تلك الممارسات في عملية "تطبيع" الاعتداء الجنسي، وتكريس النظرة مفرطة الجنسانية عبر العمل الفني. وعلى الوجه الآخر، يدين الفيلم التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يحرف في بعض الأحيان الحقيقة أو يجعلها أسوأ أيضًا، وهذا بالضبط ما حدث مع مقاطع الفيديو المعدلة التي نشرت على "تويتر" وكشفت عن شخصية المعلمة الطاغية والمتنمرة ليديا.

يصوغ فيلد شخصية ليديا تار بعيدًا عن القوالب النمطية المتوقعة، فلا تمثل الطغيان النسوي كما قد يحب بعض المعادين لحركات النسوية الراديكالية الاعتقاد. صحيح أنها اقتحمت مجالًا كان حكرًا على الرجال لفترة طويلة، إلا أنها لا تمنح إلا القليل من الاهتمام فقط للجندر أو لسياسات الهوية، وترفض في مقابلتها مع غوبنيك تعريف نفسها كامرأة نجحت في اختراق عالم الموسيقى، ساخرة من مصطلح "مايسترا" وهي مؤنث "مايسترو" في الإيطالية. كما تبدي الملحنة اهتمامًا أقل بالأسئلة الأخلاقية التي تسير بالتوازي مع أي مسيرة فنية، وكذلك تفعل في حياتها الشخصية، إذ لا تجد ليديا أي مشكلة في تهديد طفلة صغيرة بالأذى، ولا ينتابها أدنى شعور بالذنب إزاء خياناتها المتكررة لشارون.
وفي حين كان من المتوقع أن تقدم ليديا الدعم لنظيراتها من النساء وسط مجال الموسيقى الأبوي تاريخيًا، تستغل المعلمة تفوقها المزعوم لجعل الطريق أشد صعوبة على النساء الطامحات بالتقدم الوظيفي، معيدة إنتاج ذات النظام الأبوي الذي نجحت في اختراقه من قبل.
تضع ليديا تركيزها بدلًا من ذلك على الحرفة الموسيقية وتحدياتها التقنية وروادها الذين تحمل ولاءً خاصًا لهم، يدفعها إلى مهاجمة منتقديهم بشكل متطرف، مدافعةً عن نفسها من خلالهم أيضًا، فتهاجم تار ثقافة الإلغاء بشكل واضح خلال محاضرة موسيقية تلقيها على طلابها في جوليارد، واصفة كل مؤيد لها بالروبوت. ويستفزها رفض أحد الطلاب لموسيقى باخ بسبب تحيزه الجنسي. وعندما تفشل ليديا في إقناعه بنظرية فصل المنتج الفني عن الحياة الشخصية للفنان، تبدأ المعلمة سليطة اللسان بتحطيمه نفسيًا والسخرية منه، حتى تدفعه إلى مغادرة قاعة التدريس.

لا ينحاز الفيلم إلى الجانب الإبداعي في شخصية ليديا تار، ولا يجعله مبررًا لجانبها المظلم، ساخرًا من مفهوم "فنان أكبر من الحياة"، والذي غالبًا ما يحاط بسرديات تدمير الذات و"العطب"، بوصفهما منبعًا لعبقريته الإبداعية، بل يدعو مشاهديه لتقبل التناقض، ويطرح أسئلة حول تقدير ورعاية وشراء أعمال الفنانين الذين تبين أنهم أشخاص مسيئون، وعما إذا كانت أعمالهم الفنية ذات صلة بآثامهم الشخصية، وعما إذا كان استمتاعنا بها، بعد وفاتهم مثلًا، يعد تواطؤًا مع سلوكهم المشين.
بسيناريو متقن وحوارات ذكية وممتعة إلى حد بعيد، ووابل من الشخصيات بالغة التعقيد، فضلًا عن التأليف الموسيقي المذهل في محاكاته لحساسية المؤلف الموسيقي للصوت وغيابه، سيكون من الغريب ألا يتصدر فيلم تار قوائم التكريمات لأفلام هذا العام، وربما يغدو واحدًا من أهم الأفلام عن الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة على الإطلاق.

المساهمون