"فيرميليو": دراما حرب من دون حرب

03 يناير 2025
"فيرميليو" لماورا ديلبيرو: موسيقى ولوحات تشكيلية في بنائه الدرامي (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "فيرميليو" للمخرجة ماورا ديلبيرو يُبرز جماليات الصورة السينمائية بتفاصيل دقيقة في التكوينات والألوان والإضاءة، مما يخلق تجربة بصرية ساحرة تُعزز تفاعل المشاهد.
- ديلبيرو تُبدع في تقديم دراما حرب متماسكة رغم حبكة غير جديدة، وتحقق انسجاماً بين عناصر الفيلم مثل الموسيقى الكلاسيكية واختيار الزمن الشتوي للأحداث.
- الفيلم يُركز على تأثير غياب الرجل في زمن الحرب، مستعرضاً قصة حب وتأثير الحرب على المجتمعات الصغيرة، مما يُضفي عمقاً درامياً على القصة.

هناك ندرة أفلامٍ تُعلي من الجماليات التشكيلية للصورة السينمائية، وعوضاً عن الاستفادة منها، تبتعد عنها. هناك أيضاً اهتمام بالصور السينمائية والاشتغال البصري التقني إجمالاً. لكنْ، في "فيرميليو" (2024) للإيطالية ماورا ديلبيرو، الاشتغال الفني والتقني على الصورة تشكيلي بحت. فالمخرجة تعتني بدقّة وعمداً بمفردات كلّ كادر، من دون مبالغة: تكوينات وشخوص وألوان وإضاءة ومناظر طبيعية، وصمت وحركة. أخيراً، رصد ملامح وتعبيرات وحيوات تمجّ، باحتدامٍ درامي، تحت السطح. وإنْ كانت الأولوية للفنيات البصرية في مقابل الدرامية.

مع هذا، وباقتدار ملحوظ، أبدعت ديلبيرو دراما حرب بالغة التماسك والإقناع، بقدرٍ كبير من الجِدّة والأصالة والصدق. رغم أنّ الحبكة ليست جديدة كلّياً، بالنسبة إلى أفلام الحرب، ولا سيما الإيطالية، لكنْ هناك سحر متعلّق ببساطة المعالجة. يُعمِّقه الرهان على ما تنسجه ديلبيرو من صورة خلّابة، تسحر المُشاهد الذي يتفاعل معها، لتصير الأحداث خلفيّة تساهم في دفع تتابع اللوحات على الشاشة.

مهمّة ليست سهلة، يُقدِم عليها الخبراء والواثقون بقدراتهم وثقافتهم التشكيلية، ولديهم حساسيّة فنية معيّنة، تُتيح إبداع تكوينات بصرية، سينمائية الطابع، لا تنحرف كثيراً إلى الفن التشكيلي، وإنْ استلهمت أبرز أعماله في تاريخ الفن الأوروبي. مغامرة نقل الوسيط التشكيلي، الصامت والساكن، إلى وسيطٍ آخر نابض وناطق، ليست هيّنة أبداً، وبالغة التحدّي في الحفاظ على الحدّ الفاصل بين عالمين، يفصل أحدهما عن الآخر الحركة والصوت.

ليس معنى هذا أنّ مشاهدة "فيرميليو" تستلزم سعة اطّلاع وإلماماً عريضاً بالمدارس الفنية التشكيلية الكلاسيكية، وأعلامها وتحفها الفنية، وقدرةً ذهنية على تذكّر الأعمال وربطها بالمعروض على الشاشة. العكس تماماً. المعرفة العادية والقدرة على التذوّق تساهمان في تعميق المتعة، وتقدير الجهد المبذول في إبداع رؤية جمالية أخّاذة.

تقنياً، لإنجاز طموح كهذا، يتطلّب الأمر، بعيداً عن التبحّر في الفن التشكيلي، رؤية إخراجية بالغة الحساسية، لا تقتصر على التصوّر فقط، بل آلية تنفيذه أصلاً. هذا تجسّد في اختيار فريق عمل بالغ الاحترافية: المونتير المبدع لوكا ماتي، صاحب الجهد المونتاجي المُبرز جماليات عدّة؛ وأندريا كافاليتو، مُصمّم ومُنسّق ألوان الأزياء، البالية والأنيقة، والأجواء والديكورات والمناظر؛ ومدير تصوير بارع في تنفيذ التصوّر والرؤية المطلوبين بأفضل ما يكون: الروسي المعروف ميخائيل كريتشما، بكاميرته الاحترافية المتمركزة في أماكن لافتة وذكية للغاية، فوق التلال والجبال، وأسفل الوديان والهضاب، للخروج بأفضل تكوينات ممكنة للشخصيات في عمق اللقطات ومقدّمتها، وفي رصده الفني المتمكّن لجماليات الطبيعة الخارجية، والديكورات الداخلية.

 

 

افتتاحيات تكوينية، تستدعي لوحات كثيرة، أقربها ليوهانس فيرميير: الحظيرة وحلب الأبقار واللبن الطازج، وتوزيعه في كؤوس، وترتيبات المائدة، وتناول أفراد العائلة وجبات الطعام، والطهي وغيرها من شؤون المنزل. جماليات لا تقتصر على الداخل فقط، بل تمتدّ إلى كثافة الثلوج بالغة البياض في الشتاء، والألوان المُبهجة للمناظر الربيعية، فإذا باللوحات تراوح بين فصول الشتاء (بيتر بروغل) والربيع (إدوار مانيه) والصيف (فان غوغ).

هناك أيضاً براعة في تحقيق الانسجام والتناغم بين مختلف عناصر "فيرميليو": موسيقى كلاسيكية، صادحة أو هامسة، في خلفية مشاهد كثيرة. في ظلّ أجواء جمالية كهذه، تختار ديلبيرو، ببراعة، افتتاح فيلمها في فصل الشتاء القارس، لتتالى الفصول الأخرى. هذا على عكس ترتيب مقطوعة "الفصول الأربعة" (1723) المشهورة للإيطالي أنتونيو فيفالدي، المسموعة على امتداد الأحداث.

عبر خيارات فنية وجمالية كهذه، تفلت ديلبيرو باحترافية من فخّ دراما أفلام الحرب والجبال والريف، وانعزال الطبيعة وقسوتها، ومن قبضة النوع التقليدي، الغارق في كلاسيكيته وبنيته الخطية ومحدودية عوالمه، واعتيادية شخصياته المتّسمة حياتهم بالرتابة وقصر النظر وخراقة التصرّفات وردود الأفعال. ومع هذا، لوثة الحرب مؤثّرة في الجميع، وإنْ حضرت في أزيز طائرات عابرة فقط.

الاهتمام بالمرأة وعوالمها من أهم مرتكزات أفلام ديلبيرو (1975). ورغم كَمّ النساء الموجودات في جديدها، بأعمارهنّ المختلفة، وتمحور الأحداث حولهنّ وتناولها خياراتهنّ المحدودة، خصوصاً في قرية جبلية كـ"فيرميليو"، وزمن قاسٍ كزمن الحرب، تطرح ثنائية حضور ـ غياب الرجال، ومدى تأثّر المجتمعات، حتى الصغيرة، بحضور ـ غياب الرجل/البطريرك، بسبب الحرب أو غيره.

تدور أحداث "فيرميليو"، الفائز بالأسد الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، في الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). هناك المَهيب الصارم الأشيب سيزار (توماسو رانو)، معلّم مدرسة القرية، وزوجته أديل (روبرتا روفيلي) الأربعينية، وثمانية أبناء وبنات، بانتظار التاسع، وآخر يموت بعد ولادته. لكنّ الحبكة تتمحور أكثر حول لوسيا (مارتينا سكرينزي)، التي تتعلّق بالجندي الصقلي البائس بيترو (جوزيبي دي دومينيكو) الهارب من الجبهة. قصّة حبهما تصدم الجميع، ثم الحمل والزواج، فالسفر المفاجئ لبيترو فور انتهاء الحرب، مع وعد بعودة لا تتحقّق. هذا يترك لوسيا والعائلة في حيرة وشكوك، تتكشف سريعاً عن مأساة، بل كذبة كبرى، كانت ضحيتها الشابّة ووليدتها.

المساهمون