"فيدادوك 15" (2/ 2): توثيق لحظات بلغة سينمائية

21 يونيو 2024
"هوليوودغايت" لإبراهيم نشأت: توثيقُ تحوّلِ ميلشيا إلى نظام (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- المخرجة الصربية ميلا تورايليتش تستكشف في أعمالها السينمائية ميكانيزمات البروباغندا اليوغوسلافية وتأثيرها على الكفاح الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، مؤكدة على دور السينما كأداة لمقاومة الصور الكاذبة وتشكيل الوعي التاريخي والسياسي.
- أسماء المدير تعرض تجربتها في إنتاج فيلم "كذب أبيض"، مسلطة الضوء على العملية الإبداعية والتحديات التي واجهتها، بما في ذلك الابتكار في تنظيم المشاهد والتيمات، وتعكس التزامها برواية قصص تجمع بين الأحداث التاريخية والقصص العائلية.
- الفيلم الفرنسي "الكلمات التي امتلكنها يوماً" لرافاييل بيلّوزيو يحصل على الجائزة الكبرى لاستكشافه التاريخ الصامت لمناضلات جزائريات، مع تنويه بأعمال أخرى تتناول قضايا إنسانية متنوعة، مؤكدة على قوة السينما في تقديم منظورات جديدة وتسليط الضوء على قضايا ملحة.

 

أجمل لحظات "السينما الفدائية" للصربية ميلا تورايليتش تلك التي تقارب ميكانيزمات البروباغندا اليوغوسلافية، التي توضح كيفية إخراج مشاهد تتسامى بصُور الكفاح الجزائري، في مواجهة البروباغندا الفرنسية، التي اختلقت صُوراً كاذبة لما سمّتها بـ"مهمة حضارية"، تخفي ممارسات القتل والتعذيب التي كانت تنتهجها.

تدبيرٌ سينمائي رائع، يُذكّر بمشهد أثير من رائعة كريس ماركر "رسالة من سيبيريا" (1957)، يعكس كيف أنّ مفهوم البروباغندا، الذي اكتسب اليوم معنى فضفاضاً ودلالة سلبية، كان ينسحب على طيف واسع من ممارسات تُنزّه الصُور عن أي ادّعاء بالموضوعية، وتضعها في صلب قراءة تاريخية، تتحوّل بموجبها "صُور الحرب" إلى "حرب ضارية حول الصُور"، بتعبير تبنّته المخرجة في لقاء ملهم للغاية حول استعمال الأرشيف في الفيلم الوثائقي، أسرّت فيه أنّ كلّ شيء بدأ حين قرأت على واجهة "مبنى الأرشيف الوطني" في واشنطن عبارة: "يحتفظ هذا المبنى بأمانة بسجلات حياتنا الوطنية، ويرمز إلى ثقتنا في استمرارية مؤسّساتنا الوطنية"، ففهمت أنّها تعيش في بلدٍ يقبع في هامش ما ينبغي فعله للحفاظ على الأرشيف الوطني. في نظر تورايليتش، تؤدّي إيديولوجيا الوفرة، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار الصُور المنتَجة بالذكاء الاصطناعي، بشباب اليوم إلى مفترق طرق حاسم، يرهن قدرة الصُور على إحداث تغيير في العالم.

بدورها، اقتسمت أسماء المدير، في لقاء مع المهرجانيّين، المسار الشاق لتطوير فيلمها "كذب أبيض"، منذ مشاركة صيغته الأولى كمشروع في أشغال الدورة الثانية لـ"الخلية الوثائقية" عام 2013، واهتمامها البالغ بتكوين ما وصفته بأرشيف صُورها الخاص، والعناية التي توليها للعمل على الشريط الصوتي، والمقاربة التشاركية التي اعتمدتها في الاشتغال على ديكور الفيلم، وكيف أنّها اتّخذت من المشاكل والعراقيل تحدّياً يحفّزها على التقدّم، رغم مرورها في لحظات حرجة، أبرزها تعرّضها لأزمة صحية استدعت دخول المستشفى، بعد الصعوبة التي لاقتها في المونتاج في خلق تناسق بين الحبكة المرتبطة بالحكاية الكبرى (قمع احتجاجات 1981)، والخطّ المتعلّق بقصتها العائلية، والتقاطعات المعقّدة بينهما، فاهتداؤها إلى كتابة المشاهد على أوراق لاصقة ملوّنة، وترتيبها بحسب التيمات والمراحل، عارضةً صُوراً للأوراق الملوّنة التي تكاد تغطّي جُلّ مساحة شقتها الصغيرة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

نتائج وجوائز

أسفرت مداولات لجنة التحكيم (المخرجة الفرنسية الألمانية آنيا أونغر، والفنانة المعاصرة السينغالية فاتو كاندي سنغور، والكاتب الصحافي المغربي هشام حذيفة)، عن نتائج منصفة إجمالاً. الجائزة الكبرى ـ نزهة الإدريسي لـ"الكلمات التي امتلكنها يوماً"، للفرنسي رافاييل بيلّوزيو، المنطلق من فيلمٍ قصير بالأسود والأبيض، صوّره المخرج الوثائقي الراحل يان لوماسون، عن مناضلات جزائريات شابات، مباشرة بعد خروجهنّ من السجن في فرنسا، عام 1962. يكتشف بيلّوزيو أنّ شريط الصوت للفيلم مفقود، فيبدأ تحقيقاً في التاريخ الصامت لهؤلاء النساء، يصبح بموجبها البحث عن هوياتهنّ، وفحوى ما كنّ يناقشنه، ذريعةً لاستكشاف ما تبقّى من طموحهن للمشاركة مع أقرانهنّ الرجال في بناء جزائر حرّة وديمقراطية.

يذكّر هذا التدبير الجمالي بـ"الإعادة" (1997)، التحفة الوثائقية لهيرفي لورو. لكنّ الفيلم يغوص في نَفَسٍ تجريبي بالغ الجرأة، لا يخشى لحظات الصمت الطويلة، والتمعّن في الشريط الصامت والشفاه المتحرّكة، بالتركيز وإعادة مقاطع بعينها، والتبئير على تفاصيل معيّنة من أخرى (مشهد رجل في الخلفية يشير إلى المخرج)، تجعل المُشاهد ينظر إليه بعين جديدة في كلّ مرة. لكنّه يشعر في الوقت نفسه بما أثارته عبقرية مايكل أنجلو أنتونيوني في "بلو آب" (1966): كلّما أمعنت في تكبير الصُور والنظر في التفاصيل، صارت الصورة أكثر ضبابية. ثمّ اللجوء إلى الاستجوابات الموازية، التي تشتغل كقطع دومينو متساقطة. أي أنّ كلّ امرأة يلتقيها المخرج تتعرّف إلى صديقة لها، وتتّصل بها مقترحة عليها لقاءه.

مشهدُ خَبِيرَي قراءة الشفاه (رجل وامرأة)، يتشاوران ليقرّرا ما تقوله النساء، بينما تتشكّل الترجمة التحتية على الصُور تدريجياً، لحظةٌ سينمائية صافية وبالغة التأثير. ربما لأنّه يعبّر، بمفارقة إنسانية وسخرية قدرية، عن عظمة هذا الفنّ الساعي إلى إعطاء صوت لنساء فَقَدن الكلمة نصف قرن كامل، فلا يجد أفضل من خبيرين اكتسبا هذه القدرة السحرية بالضبط لأنّهما يعانيان شرط البكم، أو صعوبة النطق.

بورتريه فردي لبيلّوزيو عن نساء الثورة، وبينهنّ من توفّيت جرّاء المرض، ومن أضحت ربّة منزل وفضّلت ألّا تلتقيه، ومن اعتزلت العمل السياسي لتغدو صيدلانية، وأخرى (زهرة سلامي)، تتبنّى توجّهاً ماوياً، قبل أنْ تتحجّب وتقاسي السجن مجدّداً بأمر من هواري بومدين، لاختيارها الزواج من الرئيس أحمد بن بلّة؛ يغدو هذا بورتريهاً جماعياً ـ يقول الكثير عن جزائر اليوم ـ لجيل من النساء ضحّين بشبابهنّ للمشاركة في بناء جزائر يحلمن بها، لكنّ الرجال تنكّروا لهنّ، واستأثروا بكلّ المناصب.

 

طالبان وغيرها

جائزة لجنة التحكيم الخاصة نالها "هوليوود غايت" للمصري إبراهيم نشأت: عن كيفية احتلال حركة طالبان مجمّع "بوابة هوليوود"، القاعدة السابقة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في اليوم التالي لانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، فاستولت على طائرات ومعدّات عسكرية ثمينة. يوثّق الفيلم، في سنةٍ كاملة، تحوّل ميلشيا أصولية إلى نظام عسكري.

جائزة أفضل أول فيلم للكابو فيردي (الرأس الأخضر) كارلوس يوري سونينك، عن جوهرته الوثائقية "أومي نوبو: الرجل الجديد": عن قرية نائية هجرها سكّانها منذ الثمانينيات، بسبب أحداث مأساوية تَطيّر منها السكان. رجل واحد، كيرينيو (76 عاماً)، رفض المغادرة فعاش معزولاً أكثر من 30 سنة. معزولٌ لكنّه ليس وحيداً، كما يُصرّ المخرج، الذي صوّره بتناغمٍ تام مع الطبيعة الساحرة لشاطئ الرأس الأخضر (بحر، رياح، جبال بركانية تحفّها طرق متعرجة، إلخ)، كأنّه ناجٍ من كارثة طبيعية، يعيش على حافة العالم، أو مستوطنٌ أول لكوكب غريب. تحكي أخت كيرينيو (راوية شعبية)، على الشريط الصوتي (لا نراهما في الصورة)، قصة لقاء من الصنف الثالث بين رجل وقرية شبحية، بلغة شعرية يختلط فيها الواقعيّ بالمتخيّل الشعبي، وصُور تخطف الأنفاس بجمالها، تُدين بالكثير لموهبة مدير التصوير أريلسون ألميدا، وموسيقى مسكونة لهنريك سيلفا.

"الحياة عبارة عن حلم"، يسرّ كيرينيو بلغة يقول سونينك إنّها تبدو غريبة حتى بالنسبة إلى الكابوفيرديين، ممن يتقنون لهجة الكريول. فرادةٌ مطلقة تعيد الاعتبار إلى رابط مفقود بين الإنسان وقوى الطبيعة في العالم المعاصر، وتتفكّر في معاني الوجود والموت، وما يتبقّى من ذكرى الأرواح الراحلة.

منحت لجنة التحكيم تنويهين: الأول لـ"لن تتركنا الطيور"، للّبنانيين دانيال دافي ومحمد صَبَّاح، اللذين يُحوّلان الشهادات المسجّلة في بيروت إلى حكايات شخصية تستكشف علاقتنا بالجسد والوصم والعار. وصف تقرير اللجنة الفيلم بـ"قصص حميمية يتمّ تقاسمها في شكل مُبتكر، وعالم صوتي مثير للإعجاب. إنّه شريط بسرد متفرّد ومهمّ وضروري بالنسبة إلى من لا يريدون الشعور بالوحدة".

 

 

الثاني للفلسطيني محمد جبالي عن فيلمه الطويل الثاني "الحياة حلوة": يحكي، بكاميرا يحملها غالباً بنفسه، مساره كمخرج مبتدئ، وعن لقاء غيّر حياته، حين دُعي إلى تقديم فيلمه في مهرجان في ترومسو النرويجية، فأدّى إغلاق غزة إلى بقائه هناك، ثمّ رفضه تقديم طلب لجوء. ينحو الطرح إلى توجّه الكونية، البادي في اختيارات مخرجين فلسطينيين آخرين كإيليا سليمان (لو شئت كما في السماء)، ومهدي فليفل (إلى أرض مجهولة)، يصبح معه الشأن الفلسطيني انعكاساً لعالم تضيق فيه الهويات، وتُغلق فيه الحدود بإجراءات بيروقراطية.

يستعرض الفيلم حنين جبالي إلى عائلته، خاصة أمه، التي توفّيت قبل مشاهدة الفيلم، وغربته وسط الثلوج والشفق القطبي، ثم الحملة القانونية والإعلامية التي قادها بمساعدة رفاق نرويجيين ضد الحكومة الرافضة منحه بطاقة إقامة فنان، بحجّة عدم توفّره على ديبلوم دراسة السينما، من دون اكتراثها لنيله جوائز دولية بفضل فيلمه الأول "إسعاف" (2016)، الذي يجد في الثاني تبئييراً مرآوياً لافتاً للانتباه، حين تتفتّق مخيلته وأصدقائه النرويجيين لتصميم سيارة إسعاف شبيهة بالحاضرة في الوثائقي الأول، وتجهيزها بشاشة عرض صغيرة يُشاهد عليها المارة مقاطع من الفيلم الثاني. فكرة رائعة تدلّ على استعجالية وضع فلسطيني وغزاوي لا يُطاق، في فيلمٍ أُنجز قبل "7 أكتوبر" (2023).

 

وحشية إسرائيلية لا تتغيّر

تقاطعٌ لافت للانتباه مع وثائقي آخر هو "سفر إلى غزة"، للشاب بِيَرو أوزبرتي (المسابقة الرسمية)، حين سافر عام 2018، وكان يبلغ من العمر 25 عاماً، لتمضية ثلاثة أشهر في غزّة، لتوثيق الحياة اليومية الصعبة لأصدقائه هناك: إغلاق الحدود، انقطاع الكهرباء، ضيق الأفق، ونظرة تقليدية تجاه دور المرأة في المجتمع. رغم ذلك، تسعى سارة إلى تغيير الأوضاع، بالاشتغال في مجال التوعية الإنسانية، بينما تتدرّب جمانة على المحاماة، ويتشبّث محمد بأحلامه الماركسية بعد فشله 13 مرة في مغادرة القطاع.

لكنّ الوحشية الإسرائيلية، التي تواجه سلمية احتجاجات غزة الحدودية عام 2018، تضع حدّاً لنغمة التفاؤل الصامد لهؤلاء الشباب. بوسائل تقنية بسيطة، يوثّق أوزبرتي صُور الضحايا بصدق بالغ. ولعلّ أقسى ما أظهره شاباً فَقَد قدمه في العدوان الإسرائيلي (2014)، وحين طالب بفَكّ الحصار وحقّ العودة (2018)، لم يرحمه قنّاصو الجيش "الأخلاقي"، فأصابوا فخذيه وقدمه الاصطناعية برصاصات انشطارية.

"كيف تُطلق النار على متظاهرين عُزّل؟"، يتساءل أوزبرتي، قبل أنْ يجيب: "يكفي أنْ تنعتهم قبل ذلك بإرهابيين". انتهى المونتاج في 23 سبتمبر/ أيلول 2023، قبل أسبوعين من "7 أكتوبر". كأنّ الفيلم وُجِد ليواجه السردية العمياء التي تريد إقناعنا بأنّ كلّ شيء بدأ في ذلك اليوم. يُقدّم الإيطالي فيلمه بصوته، مُسمّياً الأشياء بمسمّياتها، حين يتحدّث باستبصار مذهل عن تطهير عرقي، ويقارن الاحتلال الإسرائيلي بالاستعمارين الأميركي والأسترالي، موجّهاً رثاءً مؤثّراً للمُصوّر ياسر مرتجى، الذي أدخل طائرة "درون" إلى غزة، ليصوّر الحاصل فيها لأول مرة، من وجهة نظر فلسطينية عُلوية. لكنّ رصاص الغدر الصهيوني لم يمهله طويلاً.

المساهمون