فنون الحوار المختلطة... من سينتصر؟

09 نوفمبر 2023
من تظاهرة تضامنية في نيويورك (الأناضول)
+ الخط -

تحولت الشاشات، سواء تلك التلفزيونيّة، أو الخاصة بالبث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى حلبات للصراع بين الآراء المتناقضة في ما يخص العدوان الذي تشنه إسرائيل على قطاع غزة. تلك "الصراعات" التي تبدأ بسؤال: "هل تدين ما قامت به حماس ؟"، وتنتهي بـ"حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها".

هذا الشكل من الحوار نراه بصورة واضحة في برنامج بيرس مورغان، أو البودكاست الخاص بالممثل البريطاني راسل براند. لكن مورغان حوّل الموضوع إلى ما يشبه فنون القتال المختلطة، وهذا ما اتضح عندما شاهدنا مُلصق الحوار بينه وبين الفنان الكوميدي المصري باسم يوسف، الذي أُقيم في لوس أنجليس. الترويج له أشبه بالترويج لنزال يقف فيه "الخصمان" متواجهين، بينما نحن الجمهور، ننتظر من "سينتصر".

هذا الشكل من "الحوار" يعيدنا، ولو بصورة غير مباشرة، إلى الترامبية (نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب)، حيث كل لحظة على الهواء معركة محتملة بين مؤيدي ومعارضي ترامب، فضلاً عن حرب الـ"ميمز" (صورة أو فيديو أو جزء من نص، عادةً ما تكون ساخرة، وتنتشر بسرعة بين مستخدمي الإنترنت) التي انتشرت حينها، إذ نشر ترامب ملصقاً يحوي صورته وصورة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني، قاسم سليماني، في ما يشبه معركة مؤجلة، انتهت باغتيال الأخير.

لكن، ما الذي نحاول قوله؟ ألسنا في مجتمع الاستعراض؟ ألسنا في عالم الحرب فيه قائمة على التغريدات، ووسيلة الحصول على "الأخبار" و"المعلومات" هي الـ"ريلز" (مقاطع فيديو قصيرة). بلى، لكن تحول هذا النقاش/ الصراع من مساحة لاستكشاف الآراء، إلى هدف في ذاته، هو بالضبط ما يحقق نبوءة غي دي بورغ؛ أي أن يستبدل الاستعراض الحدث الحقيقي. فلا يهم في عالم الاستعراض من مات ومن نجا، ولا من هزم أو من انتصر، المهم هو العرض نفسه الذي يمهد لها، وكأنه معركة بين خصمين، ننتظره بالساعة والدقيقة، من أجل الإجابة عن سؤال: من سينتصر؟ لا ما سيقوله فلان أو علان.

بالعودة إلى الشعبوية الترامبية وأشكال القتال المختلط، يُشار إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد وفرت الحلبة الأكثر وصولاً، أي تلك التي تحوي ما يشبه نظام الرهانات. من يحصل على مشاهدات أعلى أو مشاركات أكثر، هو "المنتصر". وهنا نعود إلى مقاربة "اللاجمهور". صيغة الحوار/الصراع الآن، والترويج له كمصارعة حرّة، يفقده ادعاء الحقيقة، والأهم، يحول اللاجمهور، أي تلك الفئة التي لا علاقة لها بالحدث، لكنها تريد أن تعرف عنه بحكم المساحة والانتشار، تعتمد على ما يحصل في هذه الصراعات، وتعتمد على الاستعراض نفسه. هنا، نقترح تساؤلاً: ألا يمكن لهذه الحوارات والصراعات أن تقنع أحدهم بوجهة نظر ما؟ وهذا بالضبط المخيف، أن يتحول أسلوب الحصول على المعلومة إلى مبارة مصارعة أو قتال، من ينتصر "بلاغياً" هو من يفرض وجهة نظره.

اللافت أن أسماء كثيرة، وأغلبها محسوبة على اليمين، توظف هذا الاستعراض، من أمثال جوردان بيترسون، وبين شبيرو... وغيرهما. لكن، وهنا تكمن المفارقة الثانية: هذه "الحوارات" تغوص في الفرداني، كمقاتلي الحلبات، هي لا تعتمد الحقائق التاريخية أو تستعرض وجهات النظر المتعددة، بل المهارة الفرديّة، والقدرة على الإقناع، أي إن كانت العضلات الفردية هي "سلاح" المصارع في الحلبة، فإن العضلات البلاغية هي "سلاح" المحاور في هذا الشكل من البرامج، والتركيز المفرط على الأنا. وهنا بدقة تكمن المشكلة؛ فنحن لسنا أمام تحليل أو وجهتي نظر تتصارعان، بل أمام فردين، شخصين اثنين كل منهما ينازل الآخر ويصارعه، من دون أي سلاح سوى البلاغة والتحذلق اللغوي. والأهم، الأنا التي تملأ الشاشة.

لا بد من الإشارة، أيضاً، إلى أن غواية النزال والاستعراض تجذب أصواتاً أشد غرائبية، كالشاب الأميركي جاكسون هينكل، الذي وصل عدد متابعيه على "إكس" (تويتر سابقاً) إلى مليوني متابع، على الرغم من أنه داعم للشعب الفلسطيني، لكنه ينشر أخباراً مزيّفة، ويؤيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام السوري بشار الأسد. مزيج مثير للضحك، وأحياناً الرعب. لكن، هينكل، كغيره، يحاول بأقصى ما في وسعه أن يدخل إلى الحلبة. وحتى الآن، لم يعطه أحد هذه الفرصة.

المساهمون