فنانون من غزة: موسيقى ولوحات على مدار العدوان

19 يناير 2024
ملاك مطر في مدينة غزة عام 2015 (حسام سالم/ Getty)
+ الخط -

فنانون فلسطينيون نشأوا في قطاع غزة المحاصر، وتفتّح وعيهم على اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدنهم. تعددت مجالات إبداعهم، لكن جمعتهم قضية واحدة؛ فلسطين، لتستقبل إبداعهم على اختلاف أنواعه.

قبل أن يتعرف إلى الراب، كان التصوير هواية إبراهيم غنيم الأثيرة. اكتشف شغفه بموسيقى الراب بعد حضوره حفلاً لها عندما كان عمره 13 عاماً. كثّف بعدها بحثه عن اللون الموسيقي من خلال الإنترنت. ليس من السهل أن تكون مغني راب في مجتمع محافظ، هذه الصعوبة حرضت غنيم المعروف بـMC Gaza على الاتجاه إلى اللون الغنائي تحديا في البداية، لكنه لم يستطع التوقف بعدها. عاش غنيم (29 عاما)، أربع حروب وحصاراً ممتداً لما يزيد عن 16 عاماً. ومع أنه لا يعتبر نفسه سياسياً، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يرى في نقل ما يحدث في غزة إلى العالم الخارجي واجباً عليه.

لعبت قضية بلده الدور الرئيسي في نشاطه الفني منذ البداية. يقول غنيم إنه تعلم من بلده أن يفعل المستحيل من اللاشيء، فرغم الحروب المتوالية وقساوتها البالغة، يستمر الغزيون في الغناء والرقص والرسم وكتابة الشعر. وسط حطام البيوت المدمرة، صوّر الشاب الفلسطيني أغانيه، منها أغنية "طال الانتظار" بعد عدوان عام 2014، ليتحدث فيها عن المعاناة التي عاشها الغزيون بسبب دمار خلفته الغارات الإسرائيلية، لتتخلف الدول العربية عن إعادة الإعمار. أغنية أخرى بعنوان "لو كنت أعرف"، يدين فيها القيادة الفلسطينية، و"خليك حي" التي تعطي توجيهات للأطفال حتى يبقوا آمنين خلال الغارات والقصف.

أما آخر أغانيه، فجاءت تحت اسم "حرة". تقول كلماتها: "اجتمع على كذبة الشياطين، خمسة أبقار وقرابين، هات أقصى ما عندك، أقصانا جندك، أقسمت ليقسى قصاصي، قلت بإيدي أوصل التماسي، جيشه هرب يا تماثيل، طاير جايك أبابيل، فزاعة بإيش تنفع محاصيل، أبطالنا دكوا، فكه فكه طقوا، كسروله عينه، جنده دقوا، فش حدا على غزة بعمل بعبع، عربنا وين؟ عربنا باجوا... مسافة السكة ما سمعنا غير أقوال، والسكة مش سالكة، لا لا مش سالكة... سيرتي تجيب ريتشي دمنا كاتشي، لا سمح الله عني بتشيل، رضيع من حارتي يواجه أباتشي".

في جميع هذه الأغاني، تظل القضية الفلسطينية مركزية، كما يقول غنيم: "لطالما كان الفن في فلسطين سلاحاً نستخدمه للتحدث والتعبير عما يحدث".

في غزة أيضاً، نشأت الموسيقية الفلسطينية ريم عنبر، وأصبحت أول عازفة عود في بلدتها، رغم الرفض المجتمعي وصعوبة تعلم الآلة الموسيقية هناك. من أحد تلك المراكز التي تقدم أنشطة صيفية للأطفال في مدينتها، التقطت عنبر العود في سن الثالثة عشرة، ليلازمها منذ ذلك الحين. كان من النادر أن تجد فتاة أو امرأة تعزف العود في غزة، لكنها صممت على الاستمرار.

خلال حروب ثلاث، حرض العود الفنانة الموسيقية (33 عاماً)، على تجاوز المشاعر السلبية التي كانت تخيم على القطاع عبر العدوانات المتكررة، وما يتبعها من ظروف حياتية بالغة الصعوبة نتيجة للدمار الحادث.

عملت ريم عنبر، في مرحلة لاحقة، مع الأطفال في غزة؛ إذ أشرفت على تعليمهم الموسيقى عبر برامج تابعة لـ"يونيسف". كانت مهمتها مساعدة الأطفال في تفريغ الطاقة السلبية التي استولت على نفوسهم بفعل الحروب المتتابعة، وما نجم عنها من مشكلات نفسية وإصابات بدنية.

خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، سُئلت عنبر عن كيف لها أن تستمر في العزف حتى عندما يصاب أو يقتل أحد أفراد عائلتها أو أصدقاؤها. أجابت بأن الموسيقى هي العزاء لها دائما "حتى لو سقط صاروخ، سأظل متمسكة بعودي. تحفزنا الحروب على الغناء وصنع المزيد من الموسيقى".

بعد انتقالها إلى إنكلترا عام 2017، لم تشأ أن تحيا كلاجئة. أسست فرقتها الخاصة "غزال باند"، في مدينة مانشستر حيث تعيش اليوم. ومنذ استقرارها، تنتقل من مدينة إنكليزية إلى أخرى، بغرض نشر الموسيقى والأغاني الفلسطينية، مرددة في لقاءاتها: "نحن الفنانين الفلسطينيين نحمل قضيتنا أينما ذهبنا".

في إنكلترا أيضاً، تُقيم فنانة فلسطينية أخرى، هي ملاك مطر (24 عاماً). نشأت مطر في مدينة غزة وسط أسرة تقدر الفنون والأدب. وفي 2014، حين كانت طفلة، حرضها العدوان الإسرائيلي، على أن تستغرق أكثر بين الألوان المائية التي حصلت عليها من مدرستها، لتقضي 51 يوماً (عمر العدوان) متفرغة بالكامل لهذا النشاط، فتتعرف أكثر إلى موهبتها.

تفوقها الدراسي أهداها منحة جامعية في تركيا حيث استكملت دراستها، لتعود إلى غزة خلال إجازاتها. وفي إحداها، وجدت مطر نفسها أسيرة في منزل أهلها، تحديدا في مايو/أيار 2021، حين بدأ الاحتلال الإسرائيلي بشنّ غاراته على قطاع غزة. تناولت ملاك فرشاتها لترسم العديد من اللوحات، منها لوحة زيتية بعنوان "هذه أمي". جسدت التشكيلية الفلسطينية عبر هذا العمل خوفها وإخوتها من صوت القصف المتواتر، والذي لم يكن لها ولإخواتها ملجأ منه غير الأم.

تركز لوحات مطر، المرسومة بالزيت والأكريليك، على المرأة الفلسطينية، التي أحاطت بها خلال مراحلها العمرية المختلفة. لا تخفي الفنانة تعاطفها الزائد مع مواطناتها اللواتي يواجهن، إلى جانب قيود المجتمع المحافظ، أعباءً إضافية تفرضها ظروف العدوانات المتكررة على قطاع غزة.

شاركت الفنانة الفلسطينية في معارض مهمة في تركيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبولونيا والولايات المتحدة الأميركية. حملت لوحاتها على الدوام وجوهاً تعبيرية قوية وتصميمات تجريدية، لكن في الأشهر الثلاثة الماضية، عدلت مطر مسار لوحاتها.

أنتجت رسومات بالفحم لضحايا المجازر الإسرائيلية الأخيرة في غزة، التي غادرتها في اليوم السابق لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتعيش الفنانة يومها في حالة من القلق والخوف على أفراد أسرتها المحاصرين، لكن هذا لم يُثنِها عما تراه واجبا وطنيا، عبر تسجيل معاناة أهلها فنياً، حتى تبقى الصورة مطبوعة على الروح قبل الذاكرة.

المساهمون