فلورانس ميياي (2/ 2): تشييء الأطفال أثار حيرتي ودعاني إلى التفكير

01 فبراير 2023
فلورانس ميياي: شاغال مصدر إلهام لكنّي أميل أكثر إلى ماتيس (فوك كان/وايرإيماج)
+ الخط -

في الحلقة الثانية والأخيرة من حوار "العربي الجديد" معها (الحلقة الأولى منشورة في 30 يناير/كانون الثاني 2023)، تتابع الفرنسية فلورانس ميياي قراءتها المتنوّعة لسينما التحريك، وللعالم والتاريخ والحياة والأطفال، انطلاقاً من فيلمها الأخير "العبور".

 

(*) هناك مرحلة المرور في منزل الأغنياء وسط الغابة، التي كانت غريبة جداً في تناغمها مع هيمنة اللون الأحمر، وفي حواراتها. خاصة محاولة الأثرياء تشكيل الأطفال على صورتهم، التي تُثير نوعاً ما فكرة الفاشية.

فعلاً. عندما نرى وصول كلّ أولئك الأشخاص الملتحفين بالسواد، نفكّر في نظام ديكتاتوري. بعد ذلك، الأمر بالنسبة إليّ يتعلّق بتصوير الأثرياء كغيلان. رمزياً، إذا اعتمدتُ على مرجعية الحكايات الشعبية، فإنّهم غيلانٌ يسعون إلى التهام الأطفال، بعد استعمالهم لتلبية أهوائهم. صحيحٌ أنّي لم أكن مباشِرة، ولم أذهب إلى قول إنّ هؤلاء الأطفال أشياء جنسية بتصرّف الزوجين، لأنّي فضّلتُ استعارة القول إنّهم يريدون التحكّم بهم، وتحويلهم، وجعلهم ينكرون وينسون من هم في الحقيقة. يستسلم الصبي لهذا الفخّ، لأنه يعاني نوعاً من اكتئابٍ عميق، إلى أنْ يتمكّن من الاستيقاظ، عندما تصبح أخته في خطر داهم. في كلّ كتابةٍ للقصّة، كنّا نستلهم من حكايات شعبية عن الغيلان، و"ملكة الثلج" لأندرسن، التي تخطف صبياً صغيراً، وبينما تُمشّط شعره، تجعله ينسى من هو، حتّى جاءت فتاة صغيرة لتخلّصه. مرجعية الكتابة متمثّلة بحكايات كهذه من جهة، وبخطاب الفاشية من جهة أخرى، من خلال شخصيات ترمز إلى الشرّ المطلق.

لا أعرفُ إذا كنتَ تتذكّر "آرش دو زوي". حين افتضح أمر جمعيةٍ، يُفترض بها أنْ تسعى إلى العثور على أطفال أيتام وضحايا حروب، لعرضهم للتبنّي في فرنسا، أدركنا أنّ الأطفال خُطفوا من تشاد والسودان. أذكر أيضاً أنّه، عندما كانت هناك كارثة طبيعية في هايتي، قال نجومٌ أميركيون في الإعلام إنّهم مستعدّون لتبنّي أطفالٍ منها. لكنّ العائلات ردّت: "لا نريد التخلّي عن أطفالنا لتبنّيهم. ما حدث مُروّع. ليس لدينا ما يكفي من الطعام، ولم يعد هناك بيت يؤوينا. لكنّنا لسنا مستعدّين للتخلّي عن أطفالنا".

 

(*) في فترة معينة، أريدَ للتبنّي جَعْلَ ممارسته طبيعية، أو إضفاء طابع مؤسّسي عليها.

بالضبط. هناك أيضاً أمر مُشابه ألهمني إلى حدّ ما: قضية مايكل جاكسون، وقصره الذي أطلق عليه "جنّة الأطفال". تشييء الأطفال على هذا النحو أثار حيرتي، ودعاني إلى التفكير.

 

(*) هذا يتعلّق بالقصّة. ماذا عن الاشتغال البصري؟ نتحدّث كثيراً عن تأثير مارك شاغال في اختيارك الألوان والأجواء المرئية؟

هذا مصدر إلهام أكيد، لكنّه، في الوقت نفسه، ربما كان مرجعاً غير مباشر، أو ليس بالضرورة واعياً. مراجعي تميل أكثر إلى ماتيس ومدرسة الوحشية (فوفيزم) عامة. لكنْ، أحبّ شاغال كثيراً. لذا، لا سيما في منزل الغيلان، يُمكن للألوان الزاهية أنْ تستحضر أسلوبه. بنيتُ القصّة مع ماري (ديبلشان، التي شاركت ميياي في كتابة "العبور"ـ المحرّر)، وبعد ذلك وضعتُ عليها الألوان. هذه الأخيرة رمزية للغاية، إلى درجة أنّه يمكن أحياناً أنْ نجد رمزيتها سهلة بعض الشيء. لا أعرف. بدأتُ باللون الأخضر كلون الطفولة، ثم انتقلتُ إلى الظلال الداكنة في المدينة، حيث كان يتجمّع أطفال الشوارع، التي تقع بأجوائها بين مدن جنوب إيطاليا ومدن شمال أفريقيا، بلونها المُحيل إلى التراب الأحمر. يتوافق كلّ ذلك مع الفصول أيضاً. الانطلاق من الربيع، ثم المرور بالصيف، فالخريف رفقة الغيلان، والعطلة الشتوية في منزل باباياغا، الساحرة المزيّفة.

 

(*) ما النهج الذي اتّبعتِه في الاشتغال على الصوت؟

بما أنّ هناك اتفاقات إنتاج مشترك، اشتغل موسيقيٌّ ألماني على الفيلم (فيليب كمبل ـ المُحرّر). لم يحترم ما أردتُه تماماً، لكنّي سعيدة بالموسيقى التي صنعها. كنتُ أرغبُ في موسيقى منفى، تحديداً من نوعٍ نخمّن أنّ الأطفال يُمكنهم اصطحابه معهم. صنع هذه الموسيقى التي تعود، بين فينة وأخرى، كالأغاني التي تردّدها لنا أمهاتنا، فنأخذها معنا كطائر العقعق، الذي يتبع الأطفال في رحلتهم.

 

(*) دفعتِ الجانب الشخصي للفيلم إلى حدّ وضع صوتك الخاص كراوية. صوتٌ جميلٌ جداً، لكنْ له تأثير كَسر المسافة، نوعاً ما.

هناك شيئان شخصيان للغاية فيه: دفتر ملاحظات كيونا مصنوعٌ من رسومات أمّي. في الواقع، الرسومات الموجودة في دفتر كيونا رسمتها والدتي لجدّتي وجدّتها وأصدقائها. إنّهم، في الواقع، أفرادٌ من عائلتي. هناك كثيرون منهم لا أعرفهم، لأنّ والدتي أنجزت هذه الرسوم في 5 أعوام، منذ بلوغها 15 عاماً، في حرب 39 ـ 45. من ناحية أمي، أنتمي إلى عائلة يهودية غادرت، في الحرب العالمية الثانية، من المنطقة المحتلة إلى المنطقة الحرّة. رغم أنّها وشقيقها أكبر سنّاً من شخصيتيّ "العبور"، وجدا نفسيهما في وضعٍ مماثل تقريباً، إذْ اضطرّا إلى المغادرة والهجرة، من دون والديهما، إلى الجنوب. كانت والدتي ترسم أصدقاءها، وكلّ من قابلتهم في الرحلة. الرسوم الموجودة في دفتر كيونا جزءٌ وثائقي، تقريباً، لأنّها تعود إلى أشخاصٍ قابلتهم أمي، ومات أغلبهم في الحرب. عندما كانت والدتي تتصفّح كرّاسة الرسم، كانت تقول، مثل كيونا: "هذا الشخص مات أثناء الترحيل، وهذا مات في القتال، والآخر لا يزال حيّاً".

 

 

العنصر الشخصي الثاني، صوتي. في البداية، لم أرغب في أن يكون صوتي في الفيلم. فكّرنا في ممثّلة، لكن الأمر لم ينجح. أدمجتُ صوتي كشاهد، لأنّك، عندما تصنع فيلم تحريك، تضع أصواتاً شاهدةً، وفي مرحلة تالية، هناك ممثل/ممثلة يُنجز الصوت النهائي. هكذا حقّقنا عملَ "أنيماتيك" (نسخة مسوّدة من فيلم التحريك، يُسجّل فيها الحوار على ماكيت بصري أولي، انطلاقاً من الـ"ستوري بورد" ـ المحرّر) على أصواتٍ شاهدة. لاحقاً، أعتقد أنّ الموزّع تحديداً، عندما سمع تجارب صوت الممثلة التي اخترناها، قال: "لا. لا. هذا الصوت ليس صحيحاً". أعتقد أنهم اعتادوا صوتي، وبالتالي قرّروا أنّه يجب عليّ تسجيل الصوت النهائي.

الصوت الذي جرّبناه ربما كان فتياً أكثر ممّا ينبغي، ويعتريه شيء من الأرستقراطية. لم ينجح على أي حال، وقيل لي يُفضَّل أنْ يحمل صوتك هذه القصّة.

 

(*) بالنسبة إلى النسخة الألمانية، هانا شيغولا قامت بالسرد. هذا رائع.

نعم. إنها هدية حقيقية. لم أقابلها إلى الآن. اقترحتُها، لأنّي أعرف أنها تعيش بين باريس وبرلين، وتتحدّث الفرنسية. عندما أخبرني المنتج الألماني أنّنا سنحصل على صوتها، كنتُ سعيدةً جداً، لكنّي لم أتمكن من حضور تسجيل الأصوات الألمانية، فلم تُتح لي مقابلتها. بعد إجراءات كورونا، وكلّ ما إلى ذلك، تعقّدت الأشياء قليلاً. إضافة إلى أنّي، في الحقيقة، أخجلُ من أنْ أسعى إلى التواصل مع أشخاص مثلها. لكنّي أقول لنفسي إنّه ضروري للغاية أنْ أكتب لها رسالة، لأشكرها وأخبرها أنّي أريد مقابلتها، لأنّي أعلم أنها كانت منخرطة جداً في تسجيل الصوت. حتّى أنّ هناك فيلماً وثائقياً قصيراً عنها، عرضته "آرتي"، تظهر فيه أثناء تسجيل صوت الراوية في "العبور"، فنُدرك أنّها مُتطلّبة للغاية، لأنّها تقول من تلقاء نفسها: "لا. لم يكن ذلك مُرضياً. لنسجّل مرة أخرى".

 

(*) إنها ممثلة رائعة، ذات صوت جميل، نطقاً وغناءً.

تماماً. الطريف أنّها، كما تعلم، مشهورةٌ جداً في "ألمانيا الغربية"، بفضل أفلام فاسبندر وغيرها. مؤخّراً، كنتُ في "ألمانيا الشرقية"، التي لها ثقافة أفلامٍ مختلفة. حتّى الذين يعملون في السينما، كانوا يقولون لي: "هانا شيغولا؟ لا نعرف ماذا يعني ذلك" (تضحك). كنتُ مندهشةً جداً.

 

(*) حصل "العبور" على تقدير نقدي جيد جداً في فرنسا. ماذا عن استقبال الجمهور له؟

استقبال الجمهور له رائعٌ. الناس تأثّروا جداً به. قدّمته في بلدانٍ عدّة، ومهرجانات كثيرة، في المكسيك ونيويورك وإيطاليا وإسبانيا وتونس، والآن في المغرب. قلتُ لنفسي، مع ماري، إنّنا نجحنا في رهاننا، في أن نموقعه في قصّة غير مُحدّدة بزمن، ومن دون القول إنّه مختصٌّ بشعب معيّن، لأنّ الجميع وجدوا أنفسهم في قصّة المنفى هذه. الجميع وجدوا فيها شبهاً بقصّة عائلية تخصّهم، حول جدٍّ أُجبر على الهجرة، أو حول ماضيهم هم أنفسهم.

في اليونان، أخبرتني امرأةٌ شابّة أنّ جدّتها غادرت سالونيك في رحلة طويلة، تحاكي مسار الشخصيات. في نيويورك، قال لي أحدهم: "اشتغلتُ كثيراً مع اللاجئين السوريين. كيف استطعتِ أنْ تكوني على دراية بما يحدث في سورية إلى هذا الحدّ؟". كنتُ أقول إنّنا، عندما بدأنا كتابة الفيلم، لم تكن أحداث الربيع العربي وقعت بعد. لذلك، لم نأخذها في الاعتبار بشكل خاص إطلاقاً. لكنْ، صحيحٌ أنّ كلّ هذه القصص متشابهة. عندما يغادر الناس، يأخذون رزماً فوق ظهورهم، ويتركون كلّ شيءٍ وراءهم. الأمر نفسه دائماً. هذا متأصّلٌ في الإنسان.

 

(*) العرضُ الأول حصل في مهرجان "آنسي". أتخيّل أنّه كان مؤثّراً رؤية فيلمٍ يمثل هذا المخاض الطويل أخيراً على الشاشة الكبيرة. كلّ الأفلام معجزات. لكنّ هذا الفيلم معجزة خاصّة، نوعاً ما.

اكتمل الفيلم في يناير/كانون الثاني 2020. اعتقدتُ أنّ إطلاقه سيكون فوراً، كأيّ فيلمٍ آخر. لكنْ، جاء كورونا، وألْغيَ مهرجان "كانّ"، حيث اختير الفيلم، مبدئياً، في 3 أقسام. رفضتُ علامة "كانّ 2020"، وقرّرتُ الانتظار. عام 2021، كان هناك عددٌ كبير جداً من الأفلام، فلم يتمّ انتقاؤه مُجدّداً. ذهبتُ إلى "آنسي"، فكانت المرّة الأولى التي أعود فيها إلى مهرجان، بعد العبور الكبير لمرحلة كورونا، لكنْ مع عددٍ أقلّ بكثير من الحضور المعتاد، لأنّ المنظّمين لم يكونوا مُتأكّدين من أنّهم سيتمكّنون من إقامته. كان هناك فرنسيون، بشكل أساسي، لأن الأجانب لم يتمكّنوا من القدوم. لكنّ الصالة كانت ممتلئة. إنّها المرة الأولى التي أشاهد فيها الفيلم على شاشة كبيرة جداً، رغم الشعور بالخيبة، لأنّ الفريقين الألماني والتشيكي لم يتمكّنا من الحضور.

 

(*) هل عُرض الفيلم في ألمانيا؟

أطلقت عروضه هناك منذ وقت ليس بعيداً، كما شارك في "مهرجان شتوتغارت". إطلاقه التجاري صعبٌ للغاية، حالياً. أعلمُ أنّ الناس، عندما يُشاهدونه، يتأثّرون كثيراً. هم حقاً أحبّوه، وبلغني منهم ثناءً كثيراً. لكنْ، تُسجِّل الأفلام حالياً إقبالاً أقلّ بكثير من المعتاد. الأفلام الكبيرة حافظت، بشكل أو بآخر، على نسبة كبيرة من الإقبال عليها، مع تراجع طفيف لا يتجاوز 15 بالمائة. لكنْ، بالنسبة إلى الأفلام الصغيرة، الأمر أصعب وأكثر تعقيداً. لم يتجاوز الإقبال 50 بالمائة مما كنّا نأمل.

المساهمون