رغم قِدم العلاقة بين مصر وفلسطين، سينمائياً، فإنّها ليست عميقة أو وثيقة. فعلى مدى عقودٍ من تاريخها، اتّسمت هذه العلاقة بالسطحية الشديدة، وعدم الاكتراث، أقلّه من جانب السينما المصرية، الأقدم والأعرق والأغزر إنتاجياً في العالم العربي.
تذكر المراجع أنّ أولى دور العرض الفلسطينية، في القدس وغيرها، أنشأها مصريّون من رواد الصناعة والإنتاج والتوزيع آنذاك، وأنّ وقود هذه السينمات، منذ مطلع القرن الماضي وحتّى عام 1948 تقريباً، كان قائماً على السينما الأميركية والمصرية أساساً. كذلك، أسهم الأخوان إبراهيم وبدر لاما، من فلسطين، في السينما المصرية، مساهمةً لا تُنكَر، فهما صاحِبَا أول فيلم روائي مصري عربي صامت "قبلة في الصحراء" (1927)، وإنْ اختلف النقّاد حول كونه الأول مصريّاً. الغريب أنّه، رغم إبداعهما الكبير في تاريخ السينما المصرية، تمثيلاً وتأليفاً وإنتاجاً وإخراجاً (62 فيلماً حتّى بداية خمسينيات القرن الـ20)، لم يلتفت الأخوان لاما إلى فلسطين سينمائياً، لا من قريب ولا من بعيد.
لا يُثير الأمر دهشة كبرى، إن نظرنا إليه في سياق الأفلام المصرية المُنتجة آنذاك، إذْ غلبت عليها الميلودرامية، وسطحية المواضيع، وركاكة المعالجة، واستنساخ السينمات الأوروبية والأميركية غالباً، بالإضافة إلى سيطرة طبقة معيّنة، تهمّها السينما كمشروع تجاري مُربح، ما يعني إنتاجَ الرائج جماهيرياً، قبل كلّ شيء، مع التنبّه إلى انشغال الداخل المصري بمشاكله الكثيرة والمتعدّدة، في ظلّ محاربة الاحتلال البريطاني، وتخلّف وسائل الإعلام، وانتشار الأمية، وغيرها.
هذه كلّها عوامل لم تساعد في بلورة وعي يقظ وناضج، يهتمّ بقضية خطرة، نُسِجَت خيوط مؤامرتها، على مهل، على الحدود الشرقية لمصر. ولولا حرب 1948، ربما، لما نما الوعي وازداد، ولما أخذت القضية الفلسطينية مداها من اهتمام الشعب المصري، بطبقاته المختلفة، وفكره ووعيه.
يؤكّد ما سبق أنّ ذكر فلسطين، أو القضية الفلسطينية، لم يرد، تلميحاً أو تصريحاً، قبل عام 1948. حدث هذا في "فتاة من فلسطين" (1948) لمحمود ذو الفقار، مخرجاً وممثلاً: قصّة حبّ وزواج بين فتاة فلسطينية وطيّار مصري، سقطت طائرته خلف خطوط العدو، في حرب الـ48. في النهج نفسه تقريباً، مع اختلاف طفيف، سار فُطين عبد الوهاب في أول فيلمٍ له، "نادية" (1949)، الذي لم يتناول الحرب أو القضية الفلسطينية، بل تحدّث عن سقوط أوّل شهيد مصري في حرب فلسطين.
بدءاً من خمسينيات القرن الـ20، بات اسم فلسطين، وغزّة تحديداً، يتردّد كثيراً، في سياق حرب الـ48 التي اتُّخِذَت ذريعةً أو خلفية للأحداث، من دون تطرّق أو مناقشةٍ صريحة أو عميقة للحرب وما جرى فيها، ولأسبابها وتبعاتها، ولا للقضية الفلسطينية طبعاً. ذكر الحرب فقط، أو استعراض بطولات، أو تمجيد من استُشهِدَ. من هذه الأفلام، هناك "شياطين الجوّ" (1956) لنيازي مصطفى، و"وداع في الفجر" (1956) لحسن الإمام، و"طريق الأبطال" (1961) لمحمود إسماعيل، و"صراع الجبابرة" (1962) لزهير بكير.
في السياق نفسه، اتُّخِذَت الحرب أيضاً ذريعةً لطرح قضية الأسلحة الفاسدة، وفساد الملك والقصر، ووطنية الجيش، كما في "أرض الأبطال" (1953) لنيازي مصطفى، و"الله معنا" (1954) لأحمد بدرخان. أمّا "أرض السلام" (1957) لكمال الشيخ، فيُعتبر أفضل ما قدّمته السينما المصرية آنذاك من أعمال عن فدائية المصريين في فلسطين، بعد العدوان الثلاثيّ على مصر، عام 1956، وتبيان قسوة الاحتلال الصهيوني ودمويته، ومقاومة المصري إلى جانب الفلسطيني، مع محاولة استخدام اللهجة الفلسطينية في الفيلم.
مطلع الستينيات الماضية، جذب "الناصر صلاح الدين" (1963) ليوسف شاهين، بإنتاجه الاحترافي الأضخم والأكثر تمكّناً، أنظار الوطن العربي برمّته إلى قضية القدس، وليس فلسطين، في إطار تاريخي وديني، حيث الماضي درسٌ للحاضر، وعِظة للمستقبل. ربما بسبب الخسائر التي مُني بها الفيلم، رغم احتضان الدولة له، لم يجسر أحدٌ على تكرار التجربة، أو مجاراتها فنياً أو فكرياً أو سياسياً. تفاقم الأمر لاحقاً، مع هزيمة حرب الأيام الستة (1967)، التي زادت من انكفاء المصريين على أنفسهم، وانشغالهم بحروبهم مع العدو الصهيوني، وتحرير أرضهم.
من هنا، حاولت الأفلام المصرية، على نحو استحيائي، تناول 3 حروب: 1967 والاستنزاف وأكتوبر (1973)، مُكتفيةً برصد آثارها وتبعاتها على تحوّل المجتمع والإنسان المصريين. المُثير للانتباه، في هذا السياق، أنّ أفلام التخابر والجاسوسية بدأت تظهر، بكثرة أحياناً، لا سيما في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، وصبّ معظمها في سياق الصراع المصري الصهيوني أساساً، والتفوّق المصري الاستخباراتي، بينما فلسطين حاضرة في الخلفية، أو لا تُذكر نهائياً. من هذه الأفلام: "مهمّة في تل أبيب" (1992) و"48 ساعة في إسرائيل" (1998) لنادر جلال.
رغم قتامة الصورة، وعلى غرار مفاجأة "الناصر صلاح الدين" في خروجه عن السياق، جاء "ناجي العلي" (1991) لعاطف الطيب، بتنفيذه الجريء لسيرة رسّام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر، ناجي العلي. التضييق والعسف، والنقد الموجّه إليه آنذاك، أفسدت تجربته، ما أدّى إلى نسيانه أعواماً طويلة، من دون أنْ يسقط من ذاكرة من شاهده أو سمع عنه. بينما لا أحد يذكر إلى الآن "الأقدار الدامية" (1982)، أول روائي طويل لخيري بشارة، الذي تناول فيه ـ بعمق واختلاف ـ حرب 1948، والصراع العربي الصهيوني، وانعكاس ذلك على المجتمع المصري، في إطار سياسي اجتماعي راقٍ فنياً.
في سياق آخر، كانت هناك مُناهَضَة، على استحياء وغير صدامية، لسلام أنور السادات من ناحية، ولملف التطبيع مع العدو الإسرائيلي، من ناحية أخرى. أُنتجت أفلام قليلة، انتقدت اتفاقية السلام والتطبيع والصلح مع العدو. كان من المحرّكات والحوافز، اندلاع الأحداث المُؤدّية إلى انتفاضة عام 2000 في فلسطين.
في "صعيدي في الجامعة الأميركية" (1998) لسعيد حامد، ظهر في خلفية الأحداث تأييد ودعم بارزان للقضية الفلسطينية، وإدانة للانحياز الأميركي، وحرق العلم الإسرائيلي، صراحة، في أول مَشهد سينمائيّ. كما أُبرِزَت شخصية اليهودي الصهيوني الكاره للعرب في "همّام في أمستردام" (1999) لحامد أيضاً.
من جهته، حاول علي إدريس، في "أصحاب ولا بيزنس" (2001)، مواكبة الانتفاضة، وطرح دور الإعلام والفضائيات، والتفرقة بين التعصّب الأصولي والعمليات الفدائية الاستشهداية. كما تطرّق عمرو عرفة، في "السفارة في العمارة" (2005)، للانتفاضة والتطبيع، في إطار شبه كوميدي.
في مفاجأة من عيار ثقيل، فاجأ يسري نصر الله، في "باب شمس" (2004) بجزئيه "الرحيل" و"العودة"، بطرحٍ إنساني عميق، وغير مسبوق فنياً وإنتاجياً، بشكلٍ مُغاير تماماً لما قُدِّم في السينما المصرية والعربية، عن القضية الفلسطينية أو الشخصية الفلسطينية.
المُؤسف أنّ ما سبق لم يكن مجرّد استعراض أو أمثلة عن فلسطين والقضية الفلسطينية في تاريخ السينما المصرية فقط، بل جُلّ التاريخ الفلسطيني سينمائياً، في تاريخ سينما عريقة. طبعاً، لا يتعلّق الأمر بمسألة الكَمّ، بل بكيف يستقيم هذا وفلسطين ـ بالنسبة إلى مصر منذ حقب بعيدة ـ حلقة ربط وتواصل واتصال مفصلية، جغرافياً وحضارياً وتاريخياً ودينياً، بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأفريقيا. كيف يستقيم هذا، والوجود الفلسطيني بالنسبة إلى مصر ليس قضية لغة ودين وهوية وتاريخ وحدود فقط، بل أمن قومي، بكل معنى الكلمة، استراتيجياً وسياسياً؟
ربما يجد المرء مبرّرات سياسية واجتماعية واقتصادية: انشغالٌ بالاحتلال البريطاني، وحروب مصرية ضد العدو الإسرائيلي، ثمّ انقطاعها عن محيطها وعزلتها بعد "كامب ديفيد". ناهيك عن المشاكل الداخلية، من فقر وظلم وبطش وفساد وانعدام حرية وديمقراطية. بالإضافة إلى أنّ رأس المال جبانٌ إنتاجياً، ويطرح حجّة شبّاك التذاكر.
رغم هذا، هناك أسئلة أخرى أفدح: كيف ساد تبسيط وتسطيح القضية، وتناولها المُخلّ، على مدى عقود؟ لصالح من كان الخلط حتى اللحظة بين اللهجة البدوية السيناوية الغزاوية مثلاّ، وغيرها في بقية فلسطين؟ أو بين الكوفية الفلسطينية وغيرها من الكوفيات، ومنها البدوية المصرية؟ أو حتى المسجد الأقصى من دون قبته الخضراء، أو قبة الصخرة؟ أو اللباس الفلسطيني؟ أو وصف عرب 48؟ أو تكرار زواج مصريٍّ من فلسطينية، بعد قصّة حب؟ من المسؤول عن هذين الجهل والتسطيح، في مَشاهد سينمائية هنا وهناك، تُضرّ أكثر مما تنفع؟ وإلى متى؟