فضائح وأزمات تهزّ "سي أن أن"

15 فبراير 2022
مغادرة جيف زاكر المفاجئة أربكت الشبكة داخلياً (بيل أوليري/واشنطن بوست/Getty)
+ الخط -

يجهد المختصّ في شؤون الإعلام ضمن شبكة "سي أن أن" الأميركية، براين ستيتلير، في نقل الصورة والتصورات حول مستقبلها، بعد الخضّة الداخليّة الأخيرة فيها، ليُشير إلى أنّها "شبكة لا تعتمد على شخص واحد". يُغطّي ستيتلير رحيل الرئيس التنفيذي في القناة، جيف زاكر، إثر علاقة غرامية مع مسؤولة تنفيذية في الشبكة، والمرتقب في صفقة الاندماج مع شركة "ديسكوفيري"، ليقول إنّ "سي أن أن" باقية. تأتي هذه التقارير بينما يتساءل الإعلام الأميركي والغربي عن مستقبل القناة التي تواجه فترةً غامضة إثر كثرة الأزمات فيها، فيما تنخفض أعداد مشاهداتها وتتحضّر لإطلاق منصّتها للبثّ CNN+ ولاندماج قريب مع واحدة من أكبر التكتلات الإعلامية في الولايات المتحدة.

ليست تغطيات ستيتلير منفصلة عن زملائه في الشبكة، إذ خرجوا على الهواء مباشرةً ليُناقشوا هذه التفاصيل، فيما أعرب العديد من نجوم الشبكة عن حبّهم وقربهم من رئيسها المستقيل، بعدما خُيّر بين الاستقالة والإقالة، لـ"عدم إفشائه وجود علاقة مع مسؤولة تنفيذية في القناة، وفق قوانين القناة داخلياً". لكنّ المتابعين للشأن الإعلامي الأميركي يشكّكون في ذلك السبب، خصوصاً أنّ العلاقة كانت معروفة، بحسب ما تقول "ذا غارديان" التي تُشير إلى أنّ كثيرين يربطون بين رحيل زاكر، وإقالته للمذيع الشهير كريس كومو، الذي اتّهم بمساندة أخيه، حاكم نيويورك السابق أندرو كومو، بالتغطية على فضائح الاعتداء الجنسي التي طاولته وأدت إلى مغادرته منصبه، في ما برّره هو بـ"اختلاف الثقافات"، ليقول إنّه "لم يكن يعرف أنّ تصرّفاته كانت تحرشاً جنسياً"، ما أثار غضباً محلياً واسعاً. رفع كريس كومو دعوى قضائية ضد الشبكة للحصول على تعويض يصل إلى 60 مليون دولار، بعد استبعاده بسبب لعب دور كبير وغير معلن في تشكيل دفاع شقيقه أندرو كومو.

هكذا، تهتزّ شبكة "سي أن أن" بفضائح وتغييرات جذريّة داخلها يُتوقّع أن تكون لها تأثيرات على طريقة عملها و"الصفحة الجديدة" التي ستفتحها هذا العام. فبدءاً من اتهام مذيعها كريس كومو بمساندة أخيه، مروراً برحيل رئيسها جيف زاكر، وصولاً إلى قرب اندماجها مع شركة "ديسكوفيري" في صفقة باتت قريبة بعد 5 سنوات من طرحها، يعتري الشبكة ارتباك داخلي، لا يمكن فصله عن الانخفاض الحاد في تقييمات الشبكة، كما في ثقة الجمهور في الصحافيين، واتّجاه القناة نحو "صحافة التابلويد" من أجل الرايتينغ.

أدت استقالة جيف زاكر المفاجئة من منصبه كرئيس لقناة CNN، إلى زعزعة الشبكة داخليًا وتسببت في صدمة عبر المشهد الإعلامي الأميركي. رحيل زاكر جاء بعد اعترافه بعلاقة رومانسية مع مسؤولة تنفيذية كبيرة أخرى في "سي أن أن"، أليسون غولست، يُتوّج "الدراما الداخلية" في الشبكة خلال الأشهر الأخيرة، إذ كانت تتعامل مع تداعيات الجدل الدائر حول المذيع السابق كريس كومو، وفق ما نقل موقع "ذا هيل" الأميركي. ويشير إلى أنّها تأتي في وقتٍ تتراجع فيه تصنيفات القناة الإخبارية وعدد مشاهديها، وخطط لإطلاق منصّة بثّ خلال الربيع، عدا عن اندماجها الوشيك مع واحدة من أكبر التكتّلات الإعلاميّة في العالم. كان زاكر جزءاً كبيراً من تلك الخطط وترك خروجه المفاجئ "فجوة" وأسئلة للشركة الأم "وورنر ميديا"، المخطط أن تندمج. وتحت قيادة زاكر، أمضت الشبكة الأشهر القليلة الماضية في استقطاب المواهب الصحافية بقوة بينما تستعد لإطلاق خدمة البث CNN+، ووظفت لهذا الغرض كريس والاس وكاسي هانت وأودي كورنيش.

ونقل موقع "إن بي آر" عن زملاء زاكر قوله إنّ قرار المغادرة لم يكن قراره، وهو ما نقلته مؤسسات إخبارية تحدثت عن الموضوع. وكتب زاكر في مذكرة استقالته إلى الموظفين "بالتأكيد أتمنى أن تنتهي فترة ولايتي هنا بشكل مختلف... لكنها كانت جولة رائعة. وأحببت كل دقيقة". وفي بيانها العام، أكدت أليسون غولست، مديرة التسويق في الشبكة ورئيسة اتصالاتها، أنها في علاقة مع زاكر. والاثنان غير متزوجين وهما في علاقة رضائية، لكنّ عدم الإبلاغ عن علاقتهما انتهاك لسياسات الشركة، إذ إنّ إحدى وظائف غولست هي الإبلاغ لزاكر.

يبدو أنّ زاكر يتمتع بولاء الكثير من المواهب في "سي أن أن"، فقد عبر العديد من كبار المذيعين في الشبكة شركة "وورنر ميديا" عن إحباطهم وغضبهم من قرارها عزل رئيس الشركة الأعلى، وفقًا لتقارير إعلامية، بينها ما نقلته "إن بي آر". وظهرت هذه المشاعر بوضوح خلال فقرات "سي أن أن". وقالت أليسين كاميروتا، مذيعة في الشبكة والشريكة الإذاعية السابقة لكريس كومو، أثناء مناقشة زاكر على الهواء: "هذان شخصان بالغان متفقان، وكلاهما مديران تنفيذيان. إنّ عدم قدرتهما على إقامة علاقة خاصة هو أمر خاطئ على مستوى ما".

يربط كثيرون بين رحيل جيف زاكر وإقالة كريس كومو

وقبل أسبوعين، عقد جيسون كيلار، الرئيس التنفيذي لشركة "وورنر ميديا"، اجتماعاً في واشنطن العاصمة مع موظفي "سي أن أن"، في لقاءٍ وصفته عدة تقارير بأنه متوتر. وقال كيلار في الاجتماع "شعرت بأن هذا كان المسار الصحيح للعمل. أتعهد لكم أنه تم التفكير في هذا بعناية من حيث كل سيناريو وكل احتمال، وفي النهاية هذا هو القرار الذي توصلت إليه، وأنا مرتاح لهذا القرار". في الاجتماع، اعتبر المذيع جايك تابر أنّ "مغادرة زاكر تبدو وكأنّها انتقام من قبل كومو، وتمّت بعد تهديدات من محاميه"، متسائلاً "كيف نمضي بعد فكرة أنّ الرجل الشرير يربح في هذه المعركة؟"، وفق ما نقلت عنه "نيويورك تايمز".

ويقول بعض المراقبين إنّ قرار "وورنر ميديا" بإخراج زاكر يمكن أن يكون جزءاً من جهد أكبر لإعادة تصنيف الشركة على أنها أقل تسامحًا مع التجاوزات والسلوك غير اللائق، حتى بالنسبة لشخصيات بارزة، قبل اندماجها الوشيك مع مجموعة وسائل الإعلام "ديسكوفيري".

وزاكر هو أحد أكثر المديرين التنفيذيين لوسائل الإعلام نفوذًا وتأثيرًا في الولايات المتحدة. برز عبر "إن بي سي" في وقت مبكر من حياته المهنية، وقاد طفرة في شعبيته عبر برنامج Today الصباحي، وأشرف على The Apprentice، والذي أصبح في النهاية منصة انطلاق رئاسة ترامب. خلال السنوات التسع التي قضاها في "سي أن أن"، وصف العاملون داخل الشبكة زاكر بأنه شخصية "أكبر من الحياة" وصاحب رؤية وراء علامتها التجارية التحريرية منذ تولى منصبه في عام 2013. تمتعت "سي أن أن" بطفرة في التقييمات خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض، لكنها شهدت منذ ذلك الحين تراجعاً كبيراً في نسب المشاهدة، إذ انخفضت بنسبة 74 في المائة الشهر الماضي مقارنة بشهر كانون الثاني/يناير من العام السابق، وفقا لبيانات "نيلسن ميديا ريسيرش".

تمتعت "سي أن أن" بطفرة في التقييمات خلال ولاية ترامب، لكنها شهدت تراجعاً كبيراً في نسب المشاهدة

وتشير "ذا غارديان" إلى أنّ "الشبكة تمرّ بأزمة ما بعد الجائحة"، مضيفةً أنّ كلّ ذلك لا يوقف الأموال المتدفقة، إذ تربح الشركة الأم "إيه تي أند تي" التابعة لـ"وورنر ميديا" حوالى مليار دولار سنوياً منها، بينما تعتمد قرارات المحتوى على بيانات تدفع الشبكة نحو هواجس تشبه "التابلويد" واستخدام النبرة المبالِغة والمنزعجة.

إذ تنقل الصحيفة عن الصحافية أريانا بيكاري قولها إنّ مشاكل قطاع البث في الولايات المتحدة تتضمّن ما يظهر على الشاشة، وليس فقط من يقف خلفها. إذ إنّ زاكر كان شديد التركيز على التصنيفات والحوافز المالية للشبكة، ما دفع إلى تغييرات في نقل الأخبار، نحو الرأي، لأنّ الآراء ترفع من التقييمات. ووفقًا لصحيفة "واشنطن بوست"، نجح زاكر في جعل الشبكة مربحة، من خلال توسيع نطاق البرمجة إلى ما بعد الأخبار.

تشير بيكاري إلى تأثير التقييمات على نوعية الأخبار، إذ تُعتمد كمنهج تحريري في قنوات البثّ، ما يؤثر على قرارات تحديد المحتوى. وتشرح أن الضغط الناتج عن اتخاذ قرارات تحريرية بناءً على استطلاعات الرأي وبيانات الجمهور يبدأ في الاجتماعات التحريرية الصباحية، مشيرةً إلى أنه في غياب دونالد ترامب لرفع التصنيفات، دفعت "سي أن أن" بقوة نحو "عالم المواد الشبيهة بالصحف الشعبية". ومع أنّ التغطية وطريقتها لا تقتصر على القنوات، فإنّها تبالغ فيها بشكل كبير، ما يؤثر على مصداقية الأخبار بشكل عام. وتوضح أنّه مع تحقيق أرباح ضخمة من هذا النمط، فإنّ الاتجاه نحو التغيير محدود، فبدلاً من أن تنتج القناة محتوى إخبارياً أفضل لإعلام جمهور أوسع، تتجه إلى إعادة صياغة الغضب السائد في اليوم نفسه.

ووفقًا لبيانات من مقياس "إيدلمان" السنوي حول الثقة، يتفق 56 بالمائة من الأميركيين مع العبارة التي مفادها أنّ "الصحافيين والمراسلين يحاولون عمداً تضليل الناس من خلال قول أشياء يعرفون أنّها كاذبة أو مبالغات فادحة". وقالت نسبة أكبر (58 بالمائة) إنّها تعتقد أنّ "معظم المؤسسات الإخبارية تهتم بدعم أيديولوجية أو موقف سياسي أكثر من اهتمامها بإعلام الجمهور".

58% من الأميركيين يعتقدون أنّ المؤسسات الإخبارية تهتم بدعم موقف سياسي أكثر من اهتمامها بإعلام الجمهور

كذلك، تمرّ قيادة CNN نفسها بحالة من الفوضى، إذ لا تضع غولست استراتيجية العلاقات العامة للشبكة، بينما يقود الشبكة حالياً ثلاثة من كبار نواب زاكر، هم مايكل باس وإيمي إنتيليس وكين جوتز، الذين وصفوا أنفسهم بأنهم فوجئوا أيضًا برحيله المفاجئ الأسبوع الماضي. ونقلت "فارايتي" أنّه يُنظر إلى إنتيليس على أنّها مرشحة رئيسية لتحل محل زاكر بسبب إشرافها على دفع "سي أن أن" نحو الأفلام الوثائقية والمسلسلات والأفلام الأصلية.

لكن هذه التغييرات في الشبكة لا يمكن فصلها عن صفقة الاندماج المرتقبة مع "ديسكوفيري"، وخطّة إطلاق شبكة بثّ للقناة، في الربيع المقبل. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر، قال المساهم الرئيسي في "ديسكوفيري" جون مالون، لشبكة CNBC إنه يرغب في رؤية تحول في الاتجاه التحريري لشبكة "سي أن أن". وأضاف: "أود أن أرى "سي أن أن" تتطور مرة أخرى إلى نوع الصحافة التي بدأت بها، ولديها بالفعل صحافيون لذلك، وهو ما سيكون فريدا. أعتقد حقا أن الصحافة الجيدة يمكن أن يكون لها دور في هذا الملف المستقبلي الذي ستمثله ديسكوفري-وورنر". 

يوم الأربعاء الماضي، حصلت شركتا "ديسكوفيري" وAT&T الأميركيتان، على الضوء الأخضر المُنتظر من وزارة العدل، ما قرّب الشركتين من استكمال استحواذ "ديسكوفيري" على "وورنر ميديا"، والتي تمتلك "سي أن أن". تخطط AT&T لفصل "سي أن أن" و"وورنر ميديا" في الأشهر المقبلة، وحينها ستندمج "ديسكفري" مع "وورنر ميديا"، مما يخلق قوة إعلاميّة جديدة من البث المباشر ومحتوى الكابل. والخطوة النهائية الضرورية لاستكمال الصفقة هي تصويت مساهمي "ديسكوفيري". من المتوقع أن تحصل في الأسابيع المقبلة، في ما يعتبر إجراءً شكلياً. ومن المرجح أن يسري الدمج والاندماج في إبريل/نيسان المقبل، وفقاً لـ"سي أن أن"، كما صرحت AT&T بأنها تتوقع إتمام الصفقة في "الربع الثاني" من العام. 

قبل خمس سنوات، عندما سعت AT&T لشراء "وورنر ميديا" التي كانت تُعرف آنذاك باسم "تايم وورنر"، رفعت وزارة العدل في عهد دونالد ترامب دعوى قضائية لمنع الصفقة، مشيرةً إلى مخاوف مشروعة لمكافحة الاحتكار بشأن الصفقة من بعض الزوايا، لكنّ النقاد اتهموا بأنّ الدعوى القضائية كانت سياسية ودافعها ازدراء ترامب لشبكة "سي أن أن". انتصرت شركة AT&T في نهاية المطاف في المحكمة، لكنّ اعتراضات الحكومة أخّرت الصفقة بشدة. هذه المرة، لم تجد وزارة العدل في عهد جو بايدن أي أسباب للتدخل لأسباب تتعلق بمكافحة الاحتكار. وقدمت الحكومة أوراقا رسمية، صباح الأربعاء الماضي، قالت فيها إنّ الاندماج "استوفى شروطه".

المساهمون