فرقة "مزاج"... على معبر يجتازه بائع العلكة

15 سبتمبر 2024
تقتصر أعمال الفرقة على الموسيقى الآلية (فيسبوك)
+ الخط -

قبل عشر سنوات، وفي قلب مدينة القدس المحتلة، التقى خمسة أصدقاء من هواة الموسيقى، وقرّروا تدشين فرقة يعبرّون من خلالها عن أفكارهم الفنية. كان التوافق بينهم كبيراً، كما كانت رؤيتهم لما يريدون عرضه على الجمهور واضحة. لذلك، لم يتحيّر الشبان الخمسة في تحديد اسم فرقتهم، إذ وقع اختيارهم على لفظة "مزاج" لتكون عنواناً على المجموعة الوليدة.

لا ينفي أعضاء الفريق أن تكون اللفظة مستمدة من المعنى الشائع، أي ما يعرف بالحالة المزاجية، أو Mood بالإنكليزية. لكنهم يؤكدون أن التسمية مأخوذة من "المزج"، بمعنى الخلط أو الدمج، وهو العمل الأساس الذي تنهض به الفرقة، فكثير من أعمالها تقوم على مزج الموسيقى الشرقية بالموسيقى الغربية، ليس في الآلات فحسب، ولكن في الألحان والمؤلفات الموسيقية.

لا ترى "مزاج" أي مانع في تقديم معزوفة تندمج فيها موسيقى بيتهوفن بلحن إحدى أغنيات أم كلثوم، أو أن تُصهر سماعياً شرقياً مع مقطع من الجاز أو الروك. يقدم أعضاء الفرقة أنفسهم باعتبارهم أصحاب مسؤولية عن إيصال حقيقة المعاناة الفلسطينية، وإظهار الأبعاد الإنسانية التي تُهمل كثيراً وسط ضجيج الحرب والسياسة، مع تأكيد أن الجرح الفلسطيني يمثّل مصدر الإلهام الأول.

وقد فرضت تلك المسؤولية على أعضاء "مزاج" تغييراً مهمّاً في خطتهم الأولية؛ فبعد أن كان المستهدف جمهوراً نخبوياً محدوداً، قرّرت الفرقة توسيع دائرة المخاطبين بالعمل الموسيقي، وهو ما استلزم توسيع الأشكال الموسيقية التي تقدّمها الفرقة لتتناسب مع أمزجة متباينة من هواة الموسيقى الشرقية، ومتذوقي الموسيقى الغربية الكلاسيكية أو المعاصرة، موسيقى صاخبة وأخرى هادئة. تنويع في المقامات والإيقاعات، والمقطوعات المختارة للدمج وإعادة الإنتاج، برؤية جديدة لا تقتصر على إعادة التوزيع.

كان للانتماء إلى مدينة القدس دور مهم في حالة التوافق بين أعضاء الفريق، الذين تلقوا جميعاً تعليمهم الفني في المعهد الوطني للموسيقى. كانوا طلاباً في المعهد، ثم صاروا جميعاً أساتذة فيه. وقد أتاحت اللقاءات المتكرّرة والنقاشات المتواصلة بين أعضاء الفريق مستوى استثنائياً من الحرية الفنية، توضحه عازفة القانون في الفرقة ميرال خوري قائلة: "في "مزاج" نحن مخيرون لا مسيرون، ولا أحد يفرض شيئاً على باقي الأعضاء. نحن من نختار المقطوعات وندرسها ونعيد إنتاجها عبر عمل جماعي أظن أنه سيضع اسم فرقتنا يوماً على لائحة الفرق الموسيقية العالمية".

حديث خوري عن الحرية الفنية في الفرقة يؤكده عازف العود أسامة أبو عرفة، فيقول إن "المساحة الممنوحة لكل عازف لطرح أفكاره الإبداعية من دون قيود هي أكثر ما يميز العمل مع الفرقة". يميل عرفة كثيراً إلى الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، لكن الظروف أتاحت له السفر إلى سويسرا والإقامة فيها عدة أشهر، ما مثّل فرصة للاطلاع على أنماط موسيقية مغايرة، وهو ما عزّز استعداده لفكرة الدمج الموسيقي والتنوع الثقافي والفني.

مثّل ألبوم "رحلة" نقطة مفصلية في مسيرة "مزاج" كما كان وسيلة فعالة لتوضيح رؤيتها الفنية. وقد احتوى على مجموعة من المقطوعات الموسيقية ومنها: "زمان النهاوند" و"ياشام" و"سماعي مزاج" و"حلوة يا بلدي" و"رقصة هنغارية" و"أوراق الخريف" و"سهر الليالي". ومن أهم ما تضمنه الألبوم مقطوعة بعنوان "روندو قلنديا"، وهي تعبر عن أحد المعابر الرئيسية التي يمر بها المرتحل من مدينة رام الله إلى القدس. يوضح عازف البيانو في الفرقة، جريس بلاطة، طبيعة هذا العمل. يقول: "هو تجسيد موسيقي لمعاناة الانتظار، والازدحام الذي تفرضه الإجراءات، وتشير المقطوعة إلى عناصر وتفاصيل يعرفها من يجتاز المعبر، مثل بائع العلكة، وضجيج السيارات".

ويشير بلاطة إلى أن "مزاج" شاركت عبر فيديو كليب مقطوعة "روندو قلنديا" في مسابقة الموسيقيين الفلسطينيين عام 2020، لتفوز بالمرتبة الثانية بين مئات المشاركين. ومن الأعمال اللافتة في ألبوم رحلة، مقطوعة "رابسودي غزة"، التي تُجسّد المعاناة والحصار والحرب على غزة. يوضح بلاطة أن هذا العمل يحتوي على ألحان ترمز إلى أسلوب الحياة من حزن وأمل ورثاء كما يحتوي على رقصة النصر. كل ذلك من خلال الـ"رابسودي"، الذي يعد شكلاً موسيقياً لمقطوعة منفرة مكونة من عدة أجزاء، وكل جزء له فكرة موسيقية وحالة تعبيرية مختلفة. مع العزف على آلة البيانو في الفرقة، يعمل بلاطة في الوقت عينه ملحناً وأستاذاً جامعياً ومهندساً معمارياً. وبعد أن أنهى دراسته الجامعية في إيطاليا، عاد ليدرس في عدد من المعاهد الموسيقية.

وبالرغم من اهتمام الفرقة بكل جوانب المعاناة الفلسطينية، أولت عناية واضحة لمسألة تقييد الحركة، والصعوبات التي يفرضها الاحتلال على تنقل الفلسطينيين بين مدن الضفة الغربية، أو على دخول مدينة القدس، أو زيارة قطاع غزة أو حتى على محاولات السفر إلى خارج فلسطين.

يؤكد عازف الإيقاع في الفرقة، عبد السلام صباح، أن فكرة ألبوم "رحلة" نبتت من واقع الحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين وحرمانهم من حقهم الطبيعي في التنقل والسفر بحرية وكرامة. وتضرب ميرال خوري مثلاً بتلك الأغنية التي تحكي قصة طفل فلسطيني يريد أن يذهب إلى قلنديا والقدس وغزة. ولا يفهم لمذا يرى كل هذه العراقيل. وأثناء سفره يغلبه النوم، فيحلم بأنه يسافر في سيارة إلى كثير من دول العالم، وهو السياق الذي تقدّم فيه الفرقة مقطوعات من دول مختلفة يصل إليها الطفل في منامه الجميل، قبل أن يستيقظ ويقرّر العودة إلى القدس.

وقد تضمن الألبوم عدداً من الأعمال التي ألفها أعضاء الفرقة، ومنهم جريس بلاطة ومحمد غوشة، كما تضمن بعض الأعمال التي اشترك في تأليفها أكثر من عضو. لكن تبقى الدلالة الكبيرة في الجهات التي اشتركت في إنتاج هذا الألبوم، وفي مقدمتها معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى وجامعة بيرزيت، كما حظي العمل بدعم وزارة الخارجية النرويجية وبالتعاون مع شركة الإنتاج النرويجية (KKV) وأيضاً بدعم من وتعاون مع القنصلية السويدية ومؤسسة التعاون والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. يندر أن تجتمع كل هذه الجهات من أجل دعم عمل موسيقي.

حرصت الفرقة منذ انطلاقتها على تقديم المؤلفات الآلية، وموسيقى الأغنيات الشهيرة من دون غناء، ورأت أن التعبير بالموسيقى وحدها كاف لنقل كل المعاني التي تريد الفرقة إيصالها إلى الجماهير في فلسطين وخارجها. فحين تعلن الفرقة تقديم بعض أغنيات فيروز مثلاً، هي تعني أنها ستقدم ألحان هذه الأغنيات، من دون غناء، وبالطبع بعد أن تصوغ هذه الألحان وفق معالجة جديدة. وفي مرات قليلة ونادرة، خالفت الفرقة هذا الخط العام، وقدّمت غناءً محدوداً، مثل محفلها الخيري الذي غنت فيه المطربة ميرال عياد، أو حتى مثل تقديم أغنية عبد المطلب الشهيرة "رمضان جانا" خلال الالتزام المنزلي أيام وباء كوفيد-19.

قدمت الفرقة عروضاً في أهم المهرجانات في فلسطين، منها: مهرجان ليالي الطرب في قدس العرب، ومهرجان الياسمين في رام الله، ومهرجان أيام شارع نابلس، وفعاليات رمضان بشوارع البلدة القديمة، ومهرجان أسبوع التراث في بيرزيت، ومهرجان وين عرام الله. كما قدمت عدة عروض في مدينتي هيلسنكي وكوبيو في فنلندا، وعرضاً موسيقياً في إسطنبول بمشاركة عازف البيانو تولوهان أوغورلو، كما قدمت عرضاً في جنيف بسويسرا عام 2018.

المساهمون