استمع إلى الملخص
- فرقة 47Soul الفلسطينية تعزز الاهتمام بالثقافة الفلسطينية من خلال حفلاتها الموسيقية الفريدة، مثل الحفل في برلين، مما يدل على دور الموسيقى والفنون كجزء من الحركة العالمية للتضامن مع فلسطين.
- الموسيقى والثقافة الفلسطينية تجاوزت الحدود الجغرافية، مؤثرة في الشباب الغربي ومساهمة في تشكيل وعي تجاه القضية الفلسطينية، حيث تُظهر فرق مثل 47Soul كيف يمكن للفن أن يكون جسرًا للتواصل بين الثقافات.
لعله لم يكن للثقافة الفلسطينية حضور بمثل هذا الزخم وتلك الحيوية مثلما هي الحال اليوم، بين جيل العولمة غير الناطق بالعربية من الشباب في الحواضر الغربية، تأثّراً ولا ريب بدفعِ حراك تضامن عالميّ غير مسبوق مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وهو يواجه نُذرَ نكبة جديدة على أعتاب الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.
أصبحت الكوفية البيضاء المرقطة بالأسود أو الأحمر، ومرّات بألوان مُحدثة، تشي بشيء من الاستلاب الثقافي اللطيف والطريف، تُرى في شوارع المدن الأوروبية وحدائقها ومحطات مترو الأنفاق فيها، معصوبةً تارةً حول الرؤوس، وتارةً معقودة حول الأعناق والخواصر. لم يعُد مرتدوها ومعتمروها يمثلون بالضرورة الجاليات الفلسطينية والعربية، وإنما بات العديد منهم أوروبيي المولد والمنشأ، معظمهم من بين الأصغر سناً، خصوصاً المصنفين جيل زي.
تزامناً مع اشتداد تصعيد الاحتلال الإسرائيلي، إثر بدء مدرّعاته السير في اتجاه مدينة رفح، ترافقاً مع نزوح ما يقارب المليون غزّي، يتولّد التحسّب لكارثة إنسانية أخرى تُصيب جنوب القطاع، وبعد أن تم الحديث عن إرجاءٍ، ربما بسبب الاحتقان الناجم عن تضييق السلطات والمؤسسات الرسمية في ألمانيا، منذ 7 أكتوبر، مساحات التعبير عن التضامن مع غزة، قدمت فرقة 47Soul الموسيقية الفلسطينية أخيراً (معروفة عربياً بـ فرقة السبعة وأربعين)، حفلاً في العاصمة الألمانية برلين، على مسرح "ميتروبول" وسط المدينة.
لا بد للحفل أن يوضع في سياق الأحداث، فيتفاعل مع الاهتمام المتنامي لدى الشباب العابر للوطنيّات بكل ما هو فلسطيني، حيث لم تكن الفرقة قد جاءت بأي جديدٍ يُذكر لعدة سنوات، واقتصر نشاطها على تنظيم الجولات وإحياء الحفلات.
في شهر مارس/آذار الماضي، كانت قد دُعيت فرقة السبعة وأربعين إلى المشاركة في مهرجان سنوي يُقام في جنوب أستراليا، إلا أن الدعوة سُحبت، بذريعة أن الجهة المنظمة لن تستطيع ضمان "بيئة آمنة" لأعضاء فرقة السبعة وأربعين وذلك بحسب منشور خاص بالفرقة على منصة إنستغرام.
ثم منذ أربعة شهور، أُعيد رفع فيديو مصور على قناة يوتيوب الخاصة بالفرقة، لأغنيتها الرائجة "مقدمة لرقصة شاميّة" (Intro to Shamstep) في خطوة لعلها تصب في تنشيط المنصة، مواكبةً للجولات الموسيقية المرتقبة، آخرها تلك الأوروبية التي انطلقت من العاصمة البريطانية لندن في 26 مايو/أيار الماضي، وستُختتم في مدينة أوتريخت الهولندية أواخر شهر سبتمبر/أيلول المقبل.
وبينما ينفرط عقد الجولة، ما انفك الحراك التضامني مع غزة يتّسع، خصوصاً بين شبيبة الطبقة الوسطى المعولمة من فتيات وفتيان، ويتقاطع مع سائر القضايا العالمية السياسية والاجتماعية، ليتحوّل الزي والموسيقى والرقص إلى قوة ناعمة في حوزة الشعب الفلسطيني، فيصبح ارتياد حفلة موسيقية في حاضرة غربية، تُحييها فرقة فلسطينية، تُجسّد بتركيبتها تغريبة الشتات في دول المهجر القريب والبعيد، كأنه فعل نشاطويّ، يتجاوز في مُعطاه الرمزي مجرد خوض تجربة رائقة (Cool) في التعددية الثقافية (Multiculturalism).
لعل إعادة رفع الفيديو المصوّر لأغنية الفرقة Intro to Shamstep تمثّل فرصة لتلمّس الملامح الموسيقية والثقافية لتلك القوة الناعمة، ومدى كمون تأثيرها على شريحة جماهيرية جديدة، لم تعد بعد 7 أكتوبر تنتمي بالضرورة إلى الجمهور المحليّ للفرقة بحكم النشأة والثقافة، وإنما بفعل "الانتساب" إلى قضية تحرر عادلة ذات بعد إنساني عالمي، أو بتعبير التقدميين الجدد، بكونها حليفة (Ally) شعب مُقاومٍ على أرضٍ محتلة، انطلاقاً من رؤية بين - تقاطعية تصل وتساوي بين سائر مستويات المقاومة الأخرى.
أول تلك الملامح، هو الطبيعة الكوزموبوليتيّة للأغنية التي تُقدمها مجموعات الموسيقى البديلة مثل فرقة السبعة وأربعين إذ لا يظهر الموسيقي في زيٍّ تقليديٍّ يُمثل القرى والبلدات، وليس برداء عسكري يرمز إلى الكفاح الثوري، وإنما في ملابس عصرية تروق لشبيبة اعتادت العيش والنشاط في العواصم والمدن الغربية والعربية.
أما على صعيد الأغنية، فيُسمع مقطع الكوبليه مكتوباً ومنطوقاً باللغة الإنكليزية، أي نعم ينتهي بالنداء لأجل "العودة إلى حياة الفلاحين"، داعياً عبر صور مجازية إلى الصفاء والأصالة والحرية المطلقة من كل قيد، بما فيه ذلك الاحتلال، لكنه يختار لندائه "لينغوا فرانكا"، أي لغة عولمة عابرة للثقافات، يُتقنها شباب العصر ممن كبر ونشط في الحضر، ويُحسن من خلالها التعبير عن ذاته وما يخالجها من مشاعر وأفكار.
السمة الثانية هي ما يمكن تسميته "الأبوريجينية الفلسطينية" (Aboriginality)، أي العودة إلى التراث اللامادي الأشد بدئية ومحليّة، الضاربة جذوره في الأرض وفي إرث الشعب المقيم بها، بوصفه شعباً أصلياً.
ففضلاً عن رقصة الدبكة، يمثّل اللون الشعبي في هذا السياق دور الإشارة الدالة على الهوية الأبوريجينية، على اعتباره سليلَ نغمات وألحان وآلات كالمجوز والطبلة، يعود تاريخها إلى الحضارات الزراعية الأولى، وبالتالي يتمتع بهيئة سمعية أنثروبولوجية، على خلاف لون الأغنية السياسية زمن الستينيات والتسعينيات الموجّه نحو ذائقة عربية، حين طغت عقائدية الشمولية العروبية على المغنى والمعزف فيها، فكان العود والتخت الشرقي والغناء الجوقي من مظاهرها الموسيقية الأكثر شيوعاً.
السمة الثالثة تتمثّل بالابتعاد عن الخطاب السياسي العاري المباشر، واعتماد لغة تفكيكية قائمة على الرمز المستتر في ثنايا حديث الشارع ونظم أبيات الراب. لئن يبدو خطاباً كهذا دون مستوى المأساة التي يتعرض لها الفلسطينيون اليوم، فسيكون بمقدوره مع ذلك، ربما أكثر من أي شكلٍ آخر أشدّ جهارةً وصراحةً، أن يوسع من مجال الانتساب، خصوصاً أمام شباب الغرب الذي غُيّب طويلاً عن السياسة الدولية، ولا يزال يتكشّف طريقاً إلى فهم أعمق لقضايا شعوب العالم، يُصبح تدريجياً أكثر استقلاليةً من خطاب وسائل الإعلام السائد.
لعل السمة الأخيرة هي المرافق التي غالباً ما تنشط فيها مجموعات فنية مثل فرقة السبعة وأربعين لتقديم عروضها، إذ ليست بالضرورة وعلى الدوام منابر تظاهرات ووقفات تضامنية، ولا مسارح جماهيرية لإحياء مراسم احتفالية أو تأبينية وإنما كثيراً ما تكون صالات ديسكو ونوادي للرقص والسمر. تكمن أهمية تلك المرافق بأنها تشكل فرصة تماس بالشباب المعولم بغية لقائه في عقر داره والالتحام بنمط حياته، ضمن بيئته وفي أجوائه.
عبر تحريض الفتيات والفتيان على مسك الأيادي وتشكيل حلقات الدبكة، عاصبين الكوفيّات، حاملين الأعلام واللافتات، على وقع خلطة عصرية جذّابة من التكنو والمجوز ونظم الهيب هوب، بات بالإمكان الاستئثار الفلسطيني بالعاطفة الجمعية لدى من يُطلق عليهم "هيبستر" (Hipster)، وهم الفئة الأكثر تقدميّةٍ بين - تقاطعية من بين الشباب الغربي المعولم، الأشد اهتماماً بمسعى امتلاك وعيٍ سياسيٍ حرٍ وضميرٍ إنسانيٍٍّ نقي، والذين طالما سوّقت حواضر غربية، مثل برلين، نفسها لسنين، أنها الحاضنة الثقافية الأكثر أمناً وحيوية، وحريّةً لهم.