فاتورة الكهرباء صفر: ثورة أكاديمي أميركي على التلوث

22 يناير 2023
لا يشعر سبودك بالحنين إلى حياته الأولى (فيسبوك)
+ الخط -

غيّرت مقولة "لا شيء يضر بك أكثر من فعل ما تعتقد أنه خطأ"، لرئيس الولايات المتحدة الأميركية السادس عشر أبراهام لينكولن، مسار أستاذ إدارة الأعمال في جامعة نيويورك، جوشوا سبودك، ودفعته إلى تحول جذري نحو حياة الاستدامة البيئية، ليعيش من دون استخدام شبكة الكهرباء التقليدية لنحو 8 أشهر متواصلة.
قال سبودك، في مراجعة لتجربته نشرها موقع آرس تكنيكا، إنه قرأ المقولة "الملهمة" في كتاب خطب ورسائل لينكولن، وهو يفكر في مدى صواب استمراره في العيش على نمط الحياة التقليدي في مانهاتن، حيث التمدن والتكنولوجيا وارتباطهما الوثيق بشبكة الكهرباء التقليدية. دأب سبودك على مساعدة رواد الأعمال على تعلم مفاهيم الاستدامة البيئية وإمكانية تغيير ثقافات وممارسات مؤسساتهم ودوائرهم لتحقيقها. لكنه لم يطبق ذلك على نفسه، ما جعله في حالة مستمرة من الإنكار الذاتي.
ولأن الاستدامة البيئية تتطلب تقليل المدخلات المطلوبة لإنتاج الطاقة والمواد الغذائية من الحرارة وثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرها من الملوثات، بدأ سبودك تجربته في 22 مايو/ أيار 2022، بفصل كل أجهزته المنزلية عن مقابس الكهرباء. لم يتصور الأكاديمي الأميركي أن قدرته على تحمل الحياة من دون أجهزة المنزل الكهربائية ستتجاوز بضعة أيام، ومع ذلك، قرر خوض التجربة وفتح دائرة الكهرباء الرئيسية، وفصل شقته عن الشبكة، وألزم نفسه بحل المشكلات التي نشأت جراء ذلك. وفي يناير/ كانون الثاني الحالي، كانت حياة سبودك من دون استخدام لشبكة الطاقة قد بلغت شهرها الثامن، لتكون جميع فواتيره من شركة الكهرباء: صفر كيلوواط/ ساعة.
لطالما اعتقد أن الحياة خارج إطار شبكة الكهرباء التقليدية تعني ببساطة العيش "بعيداً في الغابة"، وإنشاء مصدر طاقة بديل، والاكتفاء بالحد الأدنى من الأجهزة الشخصية، كالحاسوب والهاتف المحمولين، باعتبار وجودهما ضرورة لحياته المهنية، مع التقليل من استخدامهما إلى الحد الأدنى أيضاً. لكن حياة الاستدامة البيئية لا تقتصر على وقف استخدام شبكة الكهرباء التقليدية، بل تتعدى ذلك إلى تغيير السلوك الشخصي المعتمد على أجهزة تلك الشبكة، وتجنب الطعام المعبأ لصالح طبخ الطعام الطازج، أو تعود أكل الخضروات من دون طبخ. 

توقع سبودك أن يواجه قيوداً معقدة، خاصة في ظل وفرة خيارات الطعام المعبأة والوجبات السريعة في مانهاتن، لكن "القيود تولد الإبداع". تعلم طبخ الطعام من الصفر، وحفزته النتائج الإيجابية غير المتوقعة على الاستمرار. أما استخدام الحاسوب والجوال، فقننه سبودك تدريجياً، عبر الحد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أولاً، ثم تجنب موقع أو موقعين من المواقع التي تستنزف وقته، ثم تجنب أغلب المواقع التي يجري تحديثها يوميًا على الأقل، والاكتفاء باستثناءات الحد الأدنى، ما جعل جواله في وضع أشبه بـ"وضع الطائرة". ثلاث خطوات أخرى لم يجد سبودك نفسه مضطراً إلى سلوكها من أجل تقليل الاستهلاك، لأنه لا يملك سيارة، ويتبع نظام تغذية نباتي بالفعل، وليس لديه أطفال. والآن لا يشعر الأكاديمي الأميركي بالحنين للعودة إلى حياته الأولى. فعلى عكس توقعاته، خلقت هذه الخطوات "الحرية والفرح والمرح"، كما يروي في مراجعته، قائلاً: "بالإضافة إلى استعادة الوقت الضائع، أعيش بتصميم أكبر وأمل أقل في الترفيه بشكل سلبي، وبصراحة، إدمان أقل".
لكن كيف يمكن تلبية احتياج الحاسوب والجوال للطاقة؟ أجاب الأكاديمي الأميركي عن هذا السؤال بإنشاء "محطة طاقة محمولة"، عبر شراء معدات سبق استعمالها في توليد الطاقة من ضوء الشمس، وإعادة استخدامها كمحطة طاقة محمولة بقدرة 576 واط في الساعة. لم يكن لديه أي خبرة فنية لمعرفة ما إذا كانت هذه القدرة عالية أو منخفضة، واعتمد على التجربة لمعرفة ذلك. وبخلاف شحنه للحاسوب والجوال في أثناء وجوده بجامعة نيويورك، استثنائياً، كانت محطة الطاقة المحمولة مصدر الالكهرباء الوحيد لسبودك، ومصدرها هو الألواح الشمسية، المرتبطة ببطارية يُعاد استعمالها أيضاً.
الطاقة المولدة من الألواح كافية لتسخين الماء، لكن استخدام المصعد يعني تقويض أهداف التجربة، فقرر سبودك صعود سلالم طوابق المبنى الذي يسكن فيه، رغم بلوغه من العمر 51 عاماً. وبمرو الوقت، تحولت الأزمة إلى فرصة، وثقل صعود السلالم إلى رياضة معتادة ومفيدة، والاحتياج لضوء الشمس إلى "ضابط نظام ومواقيت" لأنشطة سبودك. 
تعلم أيضاً ضبط توقيت أنشطته مع ضوء الشمس، إذ تشحن الألواح البطارية بالكامل في نحو 4 ساعات، وقد يعني اليوم الملبد بالغيوم أن البطارية لن تشحن بالكامل، لكنه كان يتغلب على ذلك بالتخطيط الجديد لموازنة الشحن والاستهلاك، وبعض الاعتماد الاستثنائي على شحن الحاسوب المحمول والجوال من داخل جامعة نيويورك.
واكتسب سبودك من نمط حياته الجديد عادات شخصية ومهارات جديدة، مثل قراءة المزيد من الكتب، وتحسين خط الكتابة باليد، وضبط العمل على ساعات النهار، وهي العادات التي اعتبرها في البداية "تضحيات". لكن الأمر لم يكن خالياً من التحديات بالطبع، وعلى رأسها الأيام الممطرة والغائمة، حيث لا ضوء للشمس، وبالتالي لا شحن للبطارية. ومع ذلك، لم يلغ سبودك كامل أنشطته في ثلاثة أيام ممطرة متواصلة عاشها. تحطم أو تعطل الألواح الشمسية والبطارية تحدٍّ آخر، واجهه سبودك بتناول ما يكفي من الطعام الذي لا يحتاج إلى طهو حتى موعد وصول البدائل من الشركات المصنعة للألواح والبطارية. ومقابل استخدامه الاستثنائي لجامعة نيويورك في شحن حاسوبه وجواله، وجد الأكاديمي الأميركي طرقاً لتقليل استهلاكه من طاقة الجامعة لتعويض ما استخدمه، مثل اهتمامه الدائم بإطفاء الأنوار غير المستخدمة، وذلك في إطار التزامه مبادئ الاستدامة البيئية. 
أشار سبودك إلى أن حياة السكان الأصليين للولايات المتحدة كانت إحدى قصص إلهامه، إذ عاش مئات الآلاف منهم من دون طاقة كهربائية، موضحاً: "تعلمت منهم أن أقدر الأنشطة الثقافية مع الأصدقاء والعائلة والمجتمع، مثل إعداد الطعام وصنع الملابس وجمع النباتات والغناء والرقص ورواية القصص". وأضاف: "ما زلت أعيش في مانهاتن، لكنني أشعر الآن أنني أعيش في ثقافة مختلفة تقدر المرونة والإبداع والتواضع تجاه الطبيعة والمسؤولية تجاه الآخرين المتأثرين بأفعالي".
ويأمل الأكاديمي الأميركي أن تقدم تجربته المستمرة نموذجاً ملهماً للعالم، كذلك الذي قدمه الأخوان رايت في أول تجربة طيران، إذ أدى نجاحهما لمرة واحدة، بعد مسلسل من الفشل، إلى إحداث تحول في العقلية العامة، ما دفع المبتكرين إلى تحسين اختراعاتهم. يقول أخيراً: "ما أتمنى رؤيته أن يقرأ الناس ويفكروا: هل يمكننا فعل ذلك؟ نريد أن نحاول، من يدري؟ ربما تلهم قصتي بعض المبتكرين". 

المساهمون