غزة... لؤلؤة الشرق وموضع كل الأطماع

29 اغسطس 2024
على شاطئ غزة، 2016 (Getty)
+ الخط -

هل كانت غزة دائماً مجرد قطعة أرض، أو "قطاع" كما يُطلق عليها اليوم؟ مجرد مخيم يُقصف بانتظام، ويعيش ويموت فيه بضعة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين؟ دعونا نجرؤ على العودة إلى الماضي البعيد ــ الذي يتذرع به الغزاة الجدد ــ لنروي بعض حلقات العصور القديمة من تاريخ هذه المدينة الرائعة.
على الرغم من نهبها مرات عدة، تحدّت مدينة غزة، التي كانت حلقة وصل بين البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا والقارة الآسيوية، ونقطة عبور واتصال لعدد من الحضارات، واشتهرت ببساتينها التي كانت تصدر منتجاتها إلى كل مكان، غزاةً عظاماً، من الإسكندر الأكبر إلى نابليون.
"ليس لتاريخ غزة ما يحسد عليه تاريخ بيت لحم أو القدس"، هذا ما قالته ممثلة فلسطين السابقة في فرنسا، ليلى شهيد، في حوار أجرته معها إذاعة فرنسا الثقافية (France Culture) في سنة 2000، بمناسبة معرض "غزة المتوسطية" الذي أُقيم خريف ذلك العام في معهد العالم العربي في باريس. وقد أظهرت بالفعل حفريات أثرية أن المنطقة كانت تحتوي على مواقع يعود تاريخها إلى العصر البرونزي المبكر، أي بين 3000 و1300 قبل الميلاد. وقد أوضحت أن تسميتها بـ"قطاع غزة" أمر مهين واختزالي. "لقد كانت ميناءً عتيقاً لا مثيل له، تحت اسم أنثيدون، وكانت تصدّر إلى بقية العالم: روما، قرطاج، بيزنطة، أثينا... كل ما تجلبه التجارة من الشرق"، دون أن ننسى "كرومها الرائعة". 
بعد ذلك، أتاح المعرض المقام في معهد العالم العربي فرصة مشاهدة "الأمفورا (القوارير)، وهي بالتأكيد من فترة متأخرة، والتي كانت تحتوي على النبيذ المُصدَّر إلى العالم".

أنفاق الإسكندر الأكبر في غزة

في سعيه لغزو العالم، أراد الإسكندر الأكبر الاستيلاء على هذا الميناء المتوسطي. في ذلك الوقت، عام 332 قبل الميلاد، كما يروي موريس سارتر، المتخصص في التاريخ القديم وشرق البحر الأبيض المتوسط: "كانت غزة آخر قلعة فارسية في الطريق إلى مصر"، وكانت تحتل موقعاً استراتيجياً للغاية. "بعدما قاتل  للاستيلاء على صور (لبنان اليوم)، كان على الإسكندر أن يحاصر غزة لمدة شهرين أو ثلاثة". ويروي كُتاب السيرة الذاتية للمقدوني بالتفصيل ما كان يفعله لإخضاع المدينة التي كان يدافع عنها سكانها. 
كيف؟ لقد حفر أنفاقاً، ليس لجلب الطعام أو الأسلحة مثل الغزيين اليوم، بل لتقويض أسوار المدينة، التي كانت يُدافَع عنها بقوة. وقد استولى على المدينة بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من الحصار، في نهاية عام 332. وكانت الغنائم كبيرة. خاصة من البخور والمر، كما يروي موريس سارتر.
يوضح المؤرخ جان بيير فيليو، في كتابه عن غزة، أن "نهب غزة ملأ عشر سفن بالغنائم المتجهة إلى مقدونيا". كانت المدينة القديمة من الثراء الى درجة أن بلوتارخ، المؤرخ الكبير لروما واليونان القديمتين، وصفها بأنها أروماتوفورا، أي موزعة العطور. وهذا مثال جيد على الدور الاقتصادي لهذه المنطقة التي ظلت منفذاً للمنتجات القادمة من جنوب الجزيرة العربية واليمن، إذ إن اللبان والمر يأتيان أساساً من هذه المنطقة. ويتابع المؤرخ: "تبقى غزة منفذ العرب إلى البحر الأبيض المتوسط".

رقيت إلى مرتبة مستعمرة رومانية

كانت منطقة إنتاج ومنطقة عبور للبضائع. هذه الأنشطة القائمة في هذه البوليس الجديدة (مدينة منظمة على الطراز الإغريقي) كانت أساس "ثروة غزة الهلنستية والرومانية حتى وقت الفتح الإسلامي"، كما يذكر موريس سارتر. على مدى ألف عام تقريباً بعد غزو الإسكندر، أصبحت غزة مدينة إغريقية كبرى، ومركزاً اقتصادياً وفكرياً يتمتع بكل السمات والمؤسسات الموجودة في أثينا وإسبرطة. في سنوات 1990، كشفت حفريات عن بعض المنازل الجميلة التي رسمت على الطراز الإغريقي في القرن الثاني قبل الميلاد، كما في ديلوس وأفسس وغيرهما من المدن اليونانية في تلك الفترة، كما يلاحظ المتخصص في العصور القديمة.
تعرضت المدينة مرتين للغزو وضمت إلى مملكة يهودية انتصرت على خلفاء الإسكندر، مما دفع سكانها إلى الفرار "لأنهم لا يريدون أن يصبحوا يهوداً". في وقت لاحق، تم دمجها في مملكة هيرودس، ولكن "لم تكن هذه الدولة يهودية على الإطلاق"، بل كانت عالمية. وفي وقت لاحق قامت روما بدمجها في مقاطعة سورية. وكدليل على نفوذها وازدهارها، رُقيت غزة إلى صف المستعمرة الرومانية في القرن الثالث، ما أتاح منح الجنسية الرومانية لجميع سكانها.

هل كان يُتحدث بالعبرية هناك؟

"كان السكان مختلطون جداً (عرب، فينيقيون، سوريون، يونانيون، إلخ) ولكنهم متحدون باستخدام اللغة. لا يعني ذلك أنه لم تكن هناك لغات عدة مستعملة، ولكن اللغة التي كانت تُستعمل بشكل يومي هي الآرامية، كما هو الحال في كل سورية القديمة. وهذا لا يعني أن العبرية اختفت، فالكثير من الناس يعرفونها، ولكن لغة التداول والتواصل هي الآرامية، وإن كانت اليونانية تنافسها".
أصبحت اليونانية لغة النخب والإدارة اليونانية ثم الرومانية، كما نقرأ في كتاب المقابلات بين موريس سارتر وجان نويل جنيني، الذي يراد منه تقديم "صورة متناقضة" للعصرين، العصر القديم وعالم اليوم.

مُهداة إلى كليوباترا

بسبب موقعها على مفترق الطرق بين ثلاثة عوالم، كانت غزة تشكل دائماً رهاناً بالنسبة للقوى الإقليمية ومبعث تنافس أحياناً داخل نفس السلالات الحاكمة. وكونها كانت تُعتبر جوهرة، أهديت إلى كليوباترا من قبل زوجها، حاكم مصر الجديد، الجنرال الروماني مارك أنطوان. غير أن هزيمة جيوش مارك أنطوان في عام 31 قبل الميلاد أدت، لفترة وجيزة، إلى عودة غزة إلى مملكة هيرودس عشية العصر المسيحي، قبل أن تصبح جزءاً من الإمبراطورية الرومانية لحوالي ستة قرون.

وقد عانت المدينة، التي أخضعها أو سيطر عليها المصريون (في حملاتهم ضد سورية) والآشوريون والبابليون والفرس واليونانيون من مصر وروما والعرب (وهؤلاء الأخيرون منذ العصور القديمة، حيث كانت غزة تحتل موقعاً استراتيجياً على طريق القوافل)، من تداعيات وضعها كمنطقة عازلة.
ظهر اسمها في سنوات 1450 قبل الميلاد، تحت تسميتها العربية "غزّة"، في عهد الفرعون تحتمس الثاني، ولكن تميز تاريخها وهويتها بعد قرنين من ذلك بغزو "شعوب البحر" من جزيرة كريت، الذين استقروا حول وادي غزة. عُرفت هذه المنطقة الساحلية باسم فيليتسيا، ومن هنا جاء اسم فلسطين باللغة العربية.
وهذه الشعوب هي نفسها خليطاً من الكريتيين واليونانيين الميسينيين وآخرين من شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط. أي "لاجئون بالفعل آنذاك!" "ليؤسسوا جذورا في هذه المنطقة"، كما يشرح موريس سارتر، مضيفاً أن "هذه المنطقة قاومت باستمرار الضغوط من مملكة القدس". وهكذا، "خلافاً لما قد يعتقده البعض، لم تكن غزة عملياً تابعة للعبرانيين، ولم تكن خاضعة لهم في أي وقت".
كانت غزة، في العصر الهلنستي ثم الروماني، مزينة بمبانٍ رسمية ومعابد مخصصة لمختلف الآلهة، وأهمها زيوس مارناس (وهو من أصل آرامي وكريتي ربما). وتزين صورته النقود المسكوكة في غزة والتي كانت متداولة في عهد الإمبراطور الروماني هادريان الذي زارها عام 129-130، والذي نُظمت مسابقات على شرفه.
وبعد أكثر من ستة قرون، هُزم المدافعون الرومان عن غزة، التي كان يقطنها عدد كبير من السكان العرب، واليهود أيضاً، على يد الجنود المسلمين في سنة 630. وبعد ذلك بكثير، تعرضت المنطقة لغزوات أخرى: الحروب الصليبية، والمغول، والعهد الفاطمي، واستيلاء صلاح الدين الأيوبي على غزة عام 1187، وعهد المماليك، والدولة العثمانية... وصولاً إلى العصر الحديث.

 تراث مهدد

في يناير/ كانون الثاني، أثار مقطع فيديو نشره إيلي إسكوسيدو، مدير الآثار الإسرائيلية، على موقع إنستغرام، يظهر جنوداً إسرائيليين في مستودع الآثار التابع للمركز الفرنسيّ لدراسة الكتاب المقدّس والآثار بالقدس (إيباف)، استنكاراً وشائعات عن عمليات نهب. تحتوي وديعة إيباف، الواقعة تحت مسؤولية فرنسا، على بقايا ناجمة عن 28 عاماً من أعمال التنقيب في غزة. وإذا لم تدمر التفجيرات المبنى ومحتوياته، فهذا ليس هو الحال بالنسبة لكثيرين آخرين.
الى غاية تاريخ 10 حزيران/ يونيو 2024، سجلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) من خلال صور الأقمار الصناعية الأضرار التي لحقت بـ 50 موقعاً منذ 7 أكتوبر. جرى تدمير أنثيدون. وقُصف قصر الباشا التاريخي في البلدة القديمة بغزة، والذي كان يضم متحفاً ومدرسة، ثم تمت تسويته بالأرض بواسطة الجرافات. هل جرى إخراج الكنوز الأثرية التي كانت موجودة هناك قبل تدميره؟ لا أحد يعرف.
في 26 يوليو/ تموز، وإدراكاً منها بالتهديد الذي يتعرض له هذا التراث، أدرجت اليونسكو دير القديس هيلاريون الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع، والواقع في وسط قطاع غزة، على قائمة التراث العالمي وأدرجته في نفس الوقت على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر بموجب إجراء طارئ. وأوضحت المنظمة في بيان صحافي أن "هذا القرار يعترف في نفس الوقت بالقيمة العالمية الاستثنائية لهذا الموقع وبواجب حمايته في مواجهة الأخطار الوشيكة".
إن تدمير تراث قطاع غزة يعني أيضاً الرغبة في محو تاريخه الممتد لآلاف السنين. دعونا نترك الكلمة الأخيرة لموريس سارتر الذي كان بمثابة مرشدنا: "تقع غزة في بداية تاريخ فلسطين، إنها في قلب فلسطين حتى، فيليتسيا".

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.