منذ بداية "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، تُستعاد أفلامٌ فلسطينية، وأخرى (عربية وأجنبية)، عن فلسطين. الاستعادة متنوّعة: كتابةٌ، وعروض في منصات أو قاعات تابعة لجمعيات فنية وثقافية. هذا نوعٌ من دعمٍ، يُذكِّر بإنجازات فنية، بعضها الغالب معنيّ بتوثيقٍ تسجيلي لمراحل وشخصيات وتفاصيل، وبعضها مهموم بكيفية توثيقٍ كهذا في اشتغال سينمائي. التوثيق غير محصور بـ"سينما وثائقية"، فالروائي يوثِّق أيضاً، وإنْ بأدواتٍ أخرى. أمّا النتاج السينمائي من فلسطين وعنها فغير متساوٍ كلّه، إنتاجاً وتنفيذاً ومعاينة، وهذا طبيعي.
غير أنّ اللافت للانتباه، في غالبية استعادات كهذه، خلوّ معظمها (ذاك الذي أتابعُه) من أسماءٍ، لأصحابها أدوارٌ مختلفة في بلورة نصٍّ سينمائي، ومقاربة أحوالٍ وأفراد، بأشكال متفاوتة الأهمية البصرية، ومتساوية الأهمية السرديّة والتوثيقية. هذا ليس اتّهاماً بتغييب مقصودٍ. هناك كمٌّ هائل من الأفلام المُنجزة عن فلسطين وناسها، وعن حكاياتها وحكاياتهم/حكاياتهنّ، فلسطينياً وعربياً وأجنبياً. لكنْ، هل يعني هذا أنّ غيابَ أسماء واردٌ، أمْ أنّ الأمر تغييبٌ مقصود، أحياناً؟
نزار حسن (المشهد ـ قضاء الناصرة، 1960) وعبد السلام شحادة (رفح، 1961) غائبان عن معظم الاستعادات. الاشتغال السينمائي لكلّ واحدٍ منهما يختلف تماماً عن اشتغال الثاني. المشترك بين أفلامهما كامنٌ في توثيق حالة وانفعال ويوميات وعيشٍ ومواجهات، وتفاصيل صغيرة لكنّها مرتبطة بأحوال بيئة وأناسٍ، والاحتلال الإسرائيلي متفشٍّ في أرضٍ وتاريخ واجتماع. الذاتيّ ـ الحميميّ دافعٌ إلى تجوالٍ بصري في العام، أحياناً. أو مرآة تعكس هذا العام مواربةً. أو إطلالةٌ غير مباشرة على ما يعتمِل في هذا العام.
هذا غير حائلٍ دون تبيان اختلافاتٍ فنية وتقنية وأسلوبية. انهماك عبد السلام شحادة في مسائل أساسية، مُترجمٌ إلى أفلامٍ تعكس مضامينها من دون فذلكات وتصنّع، بل ببساطةٍ كثيرة، تُساعد على متابعة المرويّ فيها، بهدوء وسوية، رغم أنّ الذاتيّ في بعضها مؤثّر. مع نزار حسن، هناك إمعانٌ وحفْرٌ في تفكيك بيئة واجتماع وعلاقات وذوات، باختراقه المخبّأ في الحكاية ـ الفرد، لكشف شيءٍ منه على شاشةٍ، يُراد لها أنْ تكون مرآة فعلية للحكاية ـ الفرد.
بساطة صنيع شحادة غير حاجبةٍ تأريخاً وتوثيقاً لحالاتٍ، بعضها (الحالات) مرتبط بغزّة. سلاسة اشتغال حسن غير مانعةٍ تبصّراً ومتابعةً لعمقٍ، مُتنوّع الأشكال والمضامين والمرويّات، في سِيَر توثّقها أفلامه من داخل بيئةٍ وعلاقات وانفعالات، معظمها منبثقٌ من محيط جغرافي ـ اجتماعي ـ تربوي (الناصرة وضواحيها) يُقيم فيه، فأفلامه (حسن) معنيّة مباشرة بواقع فلسطيني، بشرياً ونفسياً وحياتياً وتاريخياً وانفعالياً. أفلام شحادة، كـ"البيئة" (1994) و"حقوق المرأة هي حقوق المرأة" (1995) و"الأيدي الصغيرة" (1996)، وصولاً إلى "العكّاز" (2000) و"إلى أبي" (2008)، كفيلةٌ بإظهار وقائع وحالات بلغة سهلة، تفادياً لنشوء حاجزٍ بين نص مُقدَّم وثائقياً ومُشاهِده/مُشاهِدته.
هذا يختلف عن أسلوب حسن، فأفلام له، كـ"استقلال" (1994) و"ياسمين" (1996) و"أسطورة" (1998) و"اجتياح" (2003)، معنيّة بفضح المحتلّ وسياساته وأعماله، بمواربة حذقة، تنبِّه إلى جوانب مختلفة من ممارساته، عبر حكايات أفرادٍ، فلسطينيين وإسرائيليين، بينهم والدته (استقلال)، المُدرِّسة في الناصرة، التي تروي، إلى أفرادٍ آخرين، حكاية فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية، من خلال سرد مشاعر وتفكير ومسالك تنبثق من لحظة "الاحتفال" بـ"استقلال" إسرائيل، أي نكبة فلسطين (1948).
أي شعور وتفكير ينتابان فلسطينياً/فلسطينية يحملان الجنسية الإسرائيلية، ويُقيمان في بلدتهما/مدينتهما الفلسطينية "الإسرائيلية"، ويعملان في مؤسّسات إسرائيلية؟ شيءٌ من تلك التساؤلات مطروحٌ في "العودة إلى الذات" (2009) لبلال يوسف، المرتكز على حدثٍ حقيقي حاصل: جندي درزي في "جيش الدفاع الإسرائيلي" يُقتل في اجتياح لبنان (1982). أيكون حزنٌ وبكاءٌ وتشييع مع احتفال بـ"بطولة" ضد "إرهابيين"، أمْ انكفاءٌ وحزنٌ داخلي صامت، فمن يُسمَّون إرهابيين هم فلسطينيون ينتمي الجندي الدرزي، وكثيرون كثيرات، إليهم؟ هذا غير حاجبٍ تفاصيل مهمّة وعميقة اخرى، يعاينها يوسف في واحدٍ من أجمل الأفلام الوثائقية الفلسطينية، رغم قسوة مادتها الواقعية.
لنزار حسن وعبد السلام شحادة وبلال يوسف دورٌ في صناعة سينما وثائقية فلسطينية، بأساليب يبلغ اختلاف بعضها عن البعض الآخر حدّ التناقض أحياناً، من دون أنْ يعني هذا إلغاءً لقيم سينمائية مختلفة في نتاجاتهم. فلكلّ فيلم ومخرج خصوصية في مقاربة مسائل فلسطينية. لذا، يُفضَّل أنْ تُشاهد نتاجاتهم في استعادات مختلفة، لما فيها من إمكانات، درامية وجمالية وسردية وفنية وثقافية وأخلاقية، تستدعي نقاشاًن وتُحرِّض ـ بطريقة ما ـ على إعمال العقل والتفكير والتساؤل.