عمرو بيومي: رمسيس تمثالٌ يحكي عن تاريخ وأبٍ وثورة

01 ابريل 2022
عمرو بيومي: كان التمثال حكواتياً لكنّي اخترت أنْ أحكي أنا (الملف الصحافي)
+ الخط -

عمرو بيومي أحد أبرز مخرجي الفيلم الوثائقي في السينما المصرية. مخرج مستقلّ، له تجربتان روائيتان: "الجسر" (1999) و"بلد البنات" (2007). لكنّه انحاز إلى الوثائقي، فمارس حريته بعيداً عن شروط سوق الإنتاج والتوزيع وقيودها.

مؤخّراً، نال فيلمه الوثائقي "رمسيس راح فين" جائزة أفضل فيلم مصري لعام 2020، في استفتاء "جمعية نقّاد السينما المصريين"، المؤجّل من العام الماضي بسبب كورونا.

بهذه المناسبة، حاورته "العربي الجديد":

 

(*) بدأت تصوير "رمسيس راح فين" عام 2006، في فترة نقل التمثال فعلياً. لكنّه لم يُعرض إلا عام 2019. مدّته 62 دقيقة، ونال الجائزة الكبرى في "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة". أنتَ كاتب السيناريو أيضاً، ومخرجه. كيف ولدت الفكرة وتطوّرت؟

عام 2006، صوّرت تحضيرات النقل، وليلة نقل التمثال. تكمن الفكرة المتشابكة مع نقل التمثال في فتوى تحريم التماثيل. آنذاك، كان هذا يشغل تفكيري. لكنْ، عندما عشت ليلة النقل، اختلف شعوري، خاصة أنّه حدثٌ يحصل مرة واحدة في العمر. كنتُ أتعامل مع المسألة باعتباري واحدا من الناس. إلى جانب التجهيز للتصوير، وجدتُ نفسي أعيش اللحظة بانفعالاتها ودهشتها وتساؤلاتها المتعدّدة والعميقة جداً: كيف يحدث ذلك؟ ألم تكن هناك معركة دائرة بسبب تحريم التماثيل؟ لماذا يسير جميع هؤلاء الناس وراء تمثال، بكلّ هذه المشاعر القوية جداً؟

هذا لم يكن ليحدث إلا بسبب العلاقة مع هذا التمثال. شعر الناس أنّه لطمة على وجه النقاش الديني، وعلى وجوه "المثقفين". شعرت حينها أنّه لا بُدّ لي أنْ أترك الموضوع جانباً لبعض الوقت. أجريت بعض المقابلات حينها مع أستاذ تاريخ الفن، لأعرف العلاقة بالتمثال، وخصوصيته، وعلاقة المصريين بالتماثيل.

 

(*) هل كانت وفاة الوالد لحظة التحرّر والانطلاق؟ لأنّك، رغم تصوير جزء كبير من رحلة نقل التمثال، لم تبدأ العمل عليه إلا بعد عام 2013. هل السبب في وفاة الأب، والتحرّر من أثره، ومن فكرة جرحه بالحكي عن دكتاتوريته، أم العودة إلى منزلكم في السكاكيني، التي أيقظت مشاعرك إزاء المكان والتمثال؟

بدأت أفكر في الموضوع مجدّداً عام 2015، أي بعد 3 أعوام ونصف العام على "ثورة 25 يناير". كلُّ شخصٍ عاش هذا الحدث وتأثّر به بشكلٍ يخصّه. بالنسبة إليّ، كنتُ أفكّر دائماً بماهية الأشياء المهموم بها. كان هناك سؤال يفرض نفسه: ماذا سيكون الموضوع؟ أله علاقة بـ"يناير" أم لا؟ لو كانت له علاقة، فكيف سيكون؟

عام 2015، كان معي إسطوانة لـ4 دقائق مُختارة من المادة التي صوّرتها، عرضتها على أصدقاءٍ، ورأيت تأثّراً كبيراً فيهم. شعرتُ أنّ الموضوع لا يزال آنيّاً، أو أصبح آنيّاً أكثر. في تلك اللحظة، شعرتُ أنّ العلاقة بـ"ثورة يناير" غير مُفتعلة. مع ذلك، لم أكن أعرف حينها كيف ستكون طبيعة المعالجة تحديداً.

عام 2006، حصلتُ على إعلان "رمسيس راح فين"، لأنّي كنتُ أتذكّره منذ طفولتي.

 

(*) إذاً، عنوان الفيلم تمّ تحديده في مرحلة باكرة؟

لا. لأنّ الفيلم كان لا يزال يتكوّن من منظور آخر. لكنْ، أيضاً إحساسي بأهمية الإعلان، وبحثي عنه، يقولان إنّ شيئاً ما يعتمل في الأعماق، وإنْ لم يتبلور بعد حينها.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

(*) في الفيلم، تحكي عن شخصية والدك وملامحه، وعن علاقة الأب بالأم، كأنّه ينطوي على دلالة تُؤكّد هذا الإسقاط السياسي على حكّام مصر الـ3 في علاقتهم بأرض الكنانة. الأب شخصية كاريزماتيّة في التعامل مع الآخرين، كما تصفه. صنع لنفسه مكانة وسطوة. في البيت، هو سلطة مُطلقة. حالته في لحظات الرضا تختلف عن تلك التي في ساعات الغضب. الأم خاضعة لسلطته، وكانت تشتكي لك باعتبارك ابنها الأكبر. لكنّ حكي الأم وبوحها خلقا مزيداً من الخوف في داخلك. أثناء ذلك، لا تُنكر أنّك كنتَ ترى والدك في مرايا شخصيات نجيب محفوظ، وهذا ينعكس في الفيلم، في حديثك عن السلطة الأبوية. ماذا عن تطوّر البناء الفيلمي في خيالك، وواقعياً؟

المعالجة الأولى لـ"رمسيس راح فين" كانت بعنوان "رمسيس يتكلّم"، وكانت ترتكز على أنّ الفرضية الدرامية في كتابة النصّ تقضي بأنّ التمثالَ هو الحكواتي، وهو الذي سيحكي ـ بكلّ أريحية الحكمة وخفّة الظلّ المصري ـ التاريخ كلّه. عندما لم يتحقّق النصّ بالشكل المطلوب، قرّرت أن أحكي أنا. من هنا، فُتح الباب على أسئلة كثيرة، منها: إذا كنتُ أنا من سيحكي، فماذا أُمثّل للمُشاهد؟ ما الذي سأقدّمه عن نفسي، وتكون له علاقة بالموضوع؟ لذا، أصبحت علاقتي بالأب، كمحور السلطة، واضحةً.

 

(*) مشهد قراءتك خطاب والدك أحد أقوى المَشاهد، لأنّ الخطاب ـ في أحد أبعاده ـ ينطوي على إحساس الأب بالذنب، وتوصيف أفعاله بالقسوة، وتبريرها بأنّها كانت من أجل حماية ابنه. هذا يجعل المتلقّي يتعاطف مع الأب، ويُقدّر تصرّفه. لكنْ، فجأة، تتدخّل أنتَ بصوتك، لتقرأ النص التحتي للخطاب، أو لتكشف البُعد السياسي للسلطة الأبوية، قائلاً في الفيلم: "اللي أبويا شافو قسوة أنا باعتبرو انتهاك للآدمية (ما رآه أبي قسوة أعتبره أنا انتهاك للآدمية)".

الخطاب من المواد التي سافرت بها، عام 2017، إلى ألمانيا، في منحة المونتاج. لكنّ قرار توظيفه في الفيلم اتّخذته في الأسبوع الأخير فقط، أي قبل الـ"فاينال كات". كان الفيلم منحوتاً كلّه. هنا، شعرتُ أنّ وجود الخطاب مهمّ.

السبب الأول كان إحساسي بتحقيق عدل ما بالنسبة إلى شخصية الأب، لأنّي، إلى جانب الحديث عن السلطة الأبوية، لجأتُ إليها (شخصية الأب) لنقل أحكامها على السياسيين في مراحل تكويني ونضجي، موظّفاً آراءها باعتبارها ذكريات وتداعيات، ومُستدعياً السياسة من خلال ما سمعته من الأب، أو في حوار مع الأب. هنا، لا يكون الأمر بالخشونة نفسها، كطرح سياسي مباشر، ولا يكون الفخّ أنّ عندي معلومات كثيرة. كذلك، منذ بداية الحكي عن حسني مبارك، يبدأ (الحكي) في الاختلاف في السياسة، لأنّه باتت لديّ وجهة نظر.

 

(*) سماع خطاب الأب مؤثّرٌ جداً. هل استوعبت خطورة هذا الأثر العاطفي للخطاب على المتلقّي، ثم كان ردُّك وتفسيرك؟

أول مرّة، سيكون الخطاب بصوت الأب، أيّ إنّي لا أقرأه عنه، فهذا نصٌّ كتبه في لحظة معينة. هناك تصاعد معين في العلاقة بيني وبينه، ثم الخلاف حول فكرة القسوة. إنّه رجلٌ أبّ، ويخاف على ابنه ومصلحته. أرى أنّ هذه القسوة جزء من منهجه، وأنّها لصالحي. هذا تستخدمه السلطة. في هذا المشهد أيضاً، أردّ على حكاية قسوة الضابط، عندما ضرب الصول، قبل أن يجد الأخير فرصة لتفسير تصرّفه، أو لتبريره. لعبت الصدفة دورها، إذ كانت لديّ صُوَر في الوحدة العسكرية في فترة التجنيد. لو أنّ الصُوَر لم تكن موجودة عندي، لما عرفتُ كيف ستكون المواد البصرية ملائمة.

 

(*) موسيقى "رمسيس راح فين" أول تعاون لك مع مركز "مكان"، هذا المكان التاريخي والفني الجميل. هل توضح علاقتك به؟

بعد "ثورة يناير 2011"، تعرّفت على المركز المصري للثقافة والفنون "مكان". هناك، في الأعوام الماضية، كانت لديّ فرصة الاقتراب من تجربة ثرية، بدأها الصديق أحمد المغربي منذ أكثر من 20 عاماً، تتمثّل فى تقديم الفنون الموسيقية والغنائية المختلفة للتراث الشعبي المصري. مع الوقت، توطّدت العلاقات الإنسانية مع "مكان" وناس "مكان"، فتقاطعت خطوطٌ بين الإنساني والإجتماعي والفني.

فنياً، قدّمت في "مكان"، عام 2014، أمسية شعرية في حبّ الشاعر صلاح عبد الصبور. وكان المركز المصري للثقافة والفنون داعماً أساسياً لأفلام "رمسيس راح فين"، و"شجرة الحياة" (وثائقي في 46 دقيقة، لم يُعرض بعد ـ المحرّر)، و"خلف حاجز اسمنتي شفاف" (وثائقي في 24 دقيقة، عُرض في "مهرجان الإسماعيلية" عام 2020 ـ المحرّر). حالياً بات "حكاية مزاهر" في مراحله النهائية. إنّه فيلمٌ وثائقي، في 30 دقيقة، عن فريق "مزاهر" لموسيقى الزار المصري وإيقاعاته، أسّسه أحمد المغربي عام 2000.

 

 

(*) لنتكلّم عن الموسيقى، وحكاية أغنية "عم يا جمال" في "رمسيس راح فين"، وكيف اشتغلت عليهما.

أساساً، "عم يا جمال" دُور من أدوار الزار، سمعته هناك كثيراً قبل "رمسيس"، وقبل السفر إلى برلين، عندما حصلت على دعم "دوكس بوكس"، حين سافرتُ بمنحة لشهرين لأعمل الـ"فيرست كات" في استوديو هناك. منذ لحظة الإعلان عن الاختيار وحتّى موعد السفر، نحو شهر ونصف الشهر، ظللت أجمع كل المواد التي يُحتَمَل أنْ أحتاج إليها هناك، فتكون معي. في تلك الفترة، عملتُ في "مكان" ورشة موسيقى مع عازفين اثنين عرفتهما في المركز، حيث توجد "الونسة"، أي أنْ يُجرِّب الناسُ العزف، ويمارسونه من دون جمهور. كان هناك "مزيكاتية" يتفاعلون مع بعضهم البعض، كأنّه حوار بينهم. كنتُ أعرف كلّ واحد منهم، ومزاجه الموسيقي، فنظّمتُ الورشة بينهما، وكلّ واحد يعزف على آلات مختلفة، بعضها تراثي، ومنها التنبورة، إضافة إلى آلات وترية أخرى، لها حسّ لحنيّ، لكنْ ليس كالتنبورة، التي لا تشبه العود، أو الآلات المألوفة للأذن.

 

(*) في أي مرحلة تشتغل بالموسيقى المناسبة للعمل؟

بالنسبة إلى "رمسيس راح فين"، حتّى قبل أنْ يتمّ بناؤه، كان يشغلني تساؤل: ماذا سيكون شريط الصوت مع هذا الموضوع. أخذت نتاج ورشة العمل هذه للموسيقى التصويرية. لكنْ، قبل سفري بأسبوع، كنتُ أقلّب في أرشيف "مكان"، وأستخرج أشياء، منها موّال "بكرا السفر"، وموال آخر. أثناء ذلك البحث، وجدت أغنية "عم يا جمال"، موّال له حالة موسيقية خاصة، لأن رأفت، الذي يُغنّيه، أحد أعضاء فرقة الزار، وهو نفسه يعزف على آلة التنبورة، أي أنّه يُمسك إيقاع الدور والأداء.

لكنْ، أثناء تسجيل "عم يا جمال" لوضعه على شريط الفيلم، قرّر أحمد المغربي أنْ يجعله يغنّي فقط، من دون أنْ يعزف على التنبورة. لأول مرة سيغنّي رأفت، بينما هناك عازفون ليسوا تقليديين في الزار، لكنّهم جميعاً ليسوا جُدداً على جوّ الزار والمزاهر. هكذا خرجت هذه الحالة التي ظهرت في الفيلم. ليس فقط كلمات الأغنية، بل الحالة الموسيقية نفسها. عندما سمعت "التراك" الموسيقي الغنائي، وجدتُ نفسي أضع تصوّراً للـ"فينال"، وفي المونتاج، بدأتُ بالدقائق الـ10 الأخيرة، التي وزّعت بعد ذلك على الفيلم من أوّله إلى آخره.

 

(*) هل يُعقل أنّنا في عصر التكنولوجيا المتقدّم جداً، ولا تجد فرصة لائقة لعرض أفلامك الوثائقية؟

لو تأمّلتِ الأمر، فستجدين أنّ هناك قصداً ما من الفيلم الوثائقي، فمَنْ يكسر القشرة تجديه يعوم مع التيار. مَنْ هم خارج التيار، مهما كان عملهم ممتعاً ومتميّزاً، لن يجدوا الفرصة. هذا شيء أصبحتُ واعياً إياه بعد "رمسيس راح فين"، أكثر فيلم كان عنده فرص عرض، ومع ذلك لم يحدث.

المساهمون