"علكة نينا سيمون" تحت الحراسة المشددة

11 نوفمبر 2022
حصل وارن إيليس على العلكة عام 1999 (جوليان دي روزا/ فرانس برس)
+ الخط -

تصل بعض الشخصيات في شهرتها وتأثيرها إلى مرحلة يصبح فيها كل ما تلمسه ذهباً، أو غرضاً سحرياً لا بد من اقتنائه، سواء كنا نتحدث عن قفّازي مايكل جاكسون، أو شعر فلان، أو حذاء علانة، أو ورقة وقع عليها رسام في أحد المطاعم. هذه الصيغة السحرية التي يكتسبها الغرض بمجرد أن يمسه أحد المشاهير تعتبر شكلاً اقتصادياً، فما لا تقتنيه المتاحف، يدخل إلى سوق المزادات العلنيّة، ويتحول إلى شكل من أشكال الثروة.

أخيراً، صدرت الترجمة الفرنسية لكتاب "علكة نينا سيمون: مذكرات عن أشياء ضاعت وعُثر عليها" (Nina Simone's Gum: A Memoir of Things Lost and Found) الذي طرح العام الماضي بالإنكليزية في إنكلترا، من تأليف الموسيقي الأسترالي وارن إيليس.

حصل إيليس على العلكة عام 1999، بعدما وضعتها المغنية وكاتبة الأغاني والناشطة الأميركية، نينا سيمون (1933- 2003) في محرمة، حين كانت تؤدي حفلاً في لندن. احتفظ بها إيليس إلى عام 2019، إذ شاركت العلكة (المُستعملة) في معرض تحت حراسة مشددة، وصُبّت لاحقاً في قوالب من الذهب والفضة للحفاظ على شكلها. وهذا ما حفز إيليس لاحقاً لوضع كتابه الذي يحدثنا فيه عن القيمة الفيتشية لهذا الغرض، وعجزه عن تفسير سبب احتفاظه بالعلكة، وكيف تغيرت حياته بعد هذه الحادثة.

ما يثير الاهتمام في حكاية علكة نينا سيمون أنها أشبه بغرض سحريّ، ليس بسبب قيمتها، أو بسبب سيمون نفسها، بل بسبب إيليس الذي احتفظ بها، لتكشف عن قدرة البشر على إيجاد الإلهام في أي غرض مسه شخص يقدرونه. الأمر لا يختلف عن الحج الأدبي، أو زيارة قبور من نحب (قبر جيم موريسون في باريس مثلاً أقرب إلى مزار للمريدين)، أو عيادة فرويد في لندن، فتتبع آثار هذه الشخصيات يحوي سحراً وإلهاماً، يرى بعضهم أنه قادر على تغيير حياتهم.

هذا التمسك بالمشاهير والاحتفاء بهم حد الهوس ليس بالجديد، فمن يعرف مدينة باريس لا يخفى عليه دكان "ملك البوب" المكرس كلياً لمايكل جاكسون الذي يرى صاحبه، ماكيل كوهين، نفسه كأكبر معجب بالفنان الأميركي في العالم. يؤكد كوهين أن كل الفضائح التي مست جاكسون أخيراً لم تهدد المعجبين وولاءهم، بل زاد عددهم بعد بث وثائقي Leaving Neverland الذي يكشف بشكل مرعب اعتداء جاكسون على أطفال.

نضع المثالين السابقين للإشارة إلى السحرية التي تمتلكها بعض الشخصيات الفنيّة، فالأغراض بحد ذاتها بلا قيمة، ونحن من نكسبها قيمتها الطوطميّة إن صح التعبير. واللافت أن الجامع الفيتيشي، إن استخدمنا مصطلح فالتر بنيامين، يمتلك قدرة على خلخلة السياق وإكساب الغرض الذي يجمعه ويقتنيه قيمة خارجية ترتبط به كشخص يقوم بفعل "الجمع". هذه القيمة لا علاقة لها بالغرض وتاريخه. وهذا بالضبط ما يثير الريبة في هذا النوع من الحكايات. نحن نقرأ ونحتفي بهوس شخص "اقتنى" ما لا يجب أن يقتنيه، أي علكة كان من المفترض أن تنتهي في سلة القمامة، ليس في معرض ثم ضمن كتاب ينال شهرة عالميّة.

يمكن أن نقرأ حكاية العلكة بوصفها جزءاً من مكونات تاريخ الفن، وما يحويه من مفارقات. بصورة أدق، محاولته للتحرر من "الأعمال الفنية" نفسها، والتركيز على الفنان ومن حوله وما يمسه. وكأن العلكة جزءٌ من محاولة لإعادة إنتاج السياق المحيط بالعمل الفني، كما نفعل عادة مع المسودات، والصور، والأماكن التي زارها الفنان، وتعليقاتها عليها. بصورة أخرى، تحرير تاريخ الفن من دراسة مضامين الأعمال الفنيّة، ودفعه نحو دراسة السياق بأكمله الذي يظهر ضمنه الفنان.

ينسحب الأمر على كل الشخصيات المؤثرة. هناك دراسات مثلاً عن اللوحات والتماثيل في عيادة فرويد، وأخرى عن مناديل أم كلثوم، فلم لا؟ من الممكن قريباً أن نجد قسماً في تاريخ الفن مهتماً بما يمضغه الفنان، ويقسم إلى ما يُمضَغ ويُبلع، وما يُمضَغ ويرمى خارج الفم.

المساهمون