العام الماضي، عندما كان التلفزيون السوري الرسمي منشغلاً بتغطية مسرحية الانتخابات السورية، وعندما كان الفنانون السوريون يطلون على الشاشات للتأكيد على مواقفهم الداعمة لنظام الأسد، أطلق الممثل السوري المعارض، عبد القادر المنلا، برنامج "همسة عتاب" على قناته الخاصة على "يوتيوب".
ناقش المنلا في برنامجه تصريحات الفنانين في تلك المرحلة، وخاطبهم مباشرةً بصيغة العتاب، قبل أن يستفيض بالحديث عن الماضي "اللاأخلاقي" لهؤلاء الفنانين، ليكشف ما كان يحدث خلف الكواليس في حقبة الدراما السورية الذهبية، في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة.
بدأ المنلا همسات عتابه برسالة وجهها إلى الممثل أيمن زيدان الذي ظلّ لأعوام طويلة غائباً عن حرب التصريحات السياسية، قبل أن يعلن العام الماضي دعمه لبشار الأسد في الانتخابات. ولاقت الحلقة الأولى استحساناً في الأوساط السورية المعارضة. لكن برنامج "همسة عتاب" لم ينتهِ مع إسدال الستار على مسرحية الانتخابات، بل امتد بعدها، بالاستناد إلى الحكايات القديمة التي راح ينبشها عن زملائه، بمناسبة أو من دون مناسبة، ويتحول إلى ثرثرة واستعراض للمواقف البطولية.
يستند المنلا في رواياته التي يسردها إلى حقيقة وجوده في كواليس الدراما السورية في تلك الحقبة، فهو الممثل الذي تخرّج من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1991. وبدأ عمله في الدراما السورية بمسلسل "جريمة في الذاكرة" عام 1992، وشارك بعدها في عدد كبير من المسلسلات السورية حتى عام 2014.
لكن خلال هذه المدة الطويلة لم ينجح بترك أي بصمة مميزة؛ فظلّ طوال هذه المدة على الهامش، لا يتعدى وجوده في المشهد صفة الكومبارس الناطق الذي يؤدي أدواراً صغيرة ومحدودة لا تعلق بالذاكرة. وحتى عندما كانت تُتاح له الفرصة للحصول على مساحات أكبر، كان لا يجيد استثمار الفرص، فالأداء الرديء والموهبة المحدودة كانا السمتين اللتين لازمتاه دائماً. ولم يبدأ اسمه بالبروز في الأوساط السورية إلا في الفترة الأخيرة التي وضع نفسه فيها بمواجهة مع نجوم من الصف الأول أو من الصف الثاني، ليستثمر أفراد الجماهير السياسية المعارضة للنظام السوري، ويقدم لهم أفكاراً متطرفة تستهويهم، وينصب نفسه نجماً عليهم، ويحقق في العام الأخير ما فشل في تحقيقه طول العقود الثلاثة الماضية.
لا نرمي هنا إلى القول إنّ مشكلة عبد القادر المنلا تكمن بكونه "كومبارس" محدود الموهبة يواجه نجوماً وقامات فنية أعلى شأناً منه؛ فمهما علا شأن الفنان أو صغر، ذلك لا يحرمه من حق الانتقاد، ولا يعطيه حصانة ضد النقد. وبالتأكيد يحق للمنلا انتقاد جميع الفنانين الذين كان له تجارب مشتركة معهم أو لم يكن. لكن المشكلة الحقيقية هي أن ما يقدمه المنلا لا يندرج تحت خانة النقد الفني، وإنّما هو نقد أخلاقي يستند إلى حكايات مشكوك بصحتها.
فعلى سبيل المثال، وجه تهمة القتل العمد للممثل السوري بشار إسماعيل قبل فترة. ووفقاً لروايته، فإن إسماعيل اعترف له بذلك أثناء فترة زمالتهما في المعهد العالي للفنون المسرحية. ومن خلال الاطلاع على سجلات المعهد، نلاحظ أن إسماعيل تخرّج عام 1985، أي قبل عامين من دخول المنلا إلى المعهد الذي تخرّج منه عام 1991. وبالتالي الرواية على الأرجح زائفة.
بهذا، يبدو أن الممثل المُعارض مستعد لاختلاق عشرات القصص التي لم تحدث، بغرض الإساءة لخصومه السياسيين. وحتى لو افترضنا وجود خطأ في سجلات المعهد، وأنّ الحادثة وقعت فعلاً، فكيف سكت المنلا عن جريمة قتل لما يزيد عن ثلاثة عقود؟ وكيف قبل بمشاركة بشار إسماعيل في التمثيل بمسلسلات مثل "مرايا"؟ ألا يعتبر ذلك أيضاً سقطة أخلاقية ونقطة سوداء في ماضيه؟
وبالحديث عن خصومه الذين يخصص لكلّ منهم حلقة أو أكثر لانتقاده وكشف المستور عنه، نتساءل: من هم؟ وكيف يختارهم؟ في البداية، كانت الاختيارات مبررة نوعاً ما، كونها استندت إلى تصريحات آنية لممثلين يدعمون الأسد في الانتخابات، وتفرع عن التصريحات لذكر حكايات مشتركة، حقيقية أو متخيلة. لكن، في ما بعد، بدأت الخيارات تصبح أكثر غرابةً وعشوائية؛ فعبد القادر المنلا يؤمن بأن كل فنان يعيش داخل سورية، وكلّ فنان لم يعلن موقفاً واضحاً من الثورة، هو "فنان شبيح صامت" ليستند إلى شعار ردده السوريون في بدايات الثورة: "صمتكم يقتلنا" الذي لا بدّ من العودة إليه ومناقشته بشكل نقدي؛ فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الصمت جريمة، ولا يمكن تبرير كل ما يمارسه المنلا من تشهير بحق الفنانين، بذريعة أنّهم مالوا إلى كفة النظام، أو صمتوا عن جرائمه.
الأمر الأكثر غرابة في حلقات المنلا أن حدة النقد والتشهير فيها تزداد حين يتناول الممثلين المعروفين بميلهم إلى كفة النظام، والذين بدأ صوتهم يعلو ضده أخيراً، ليوجه لهم تهما كبيرة وخطيرة؛ كما فعل مع بشار إسماعيل وعباس النوري، عقب تصريحاتهم المعادية للنظام. سبب المبالغة في العداء ضد هؤلاء ربما يكمن في تخوف المنلا من ميل نجوم من الصف الأول أو الثاني إلى كفة المعارضة، وأن يفقد بذلك جزءا من مكانته الشعبوية التي صنعها، وقد ينتهي حضوره ويتلاشى "تاريخه" الفني بانتهائها.