عاصي الرحباني... وطن من حلم ومواطنون من ورق

07 مايو 2023
عاصي الرحباني وفيروز في باريس عام 1975 (فرانسوا لوشون/ Getty)
+ الخط -

تعددت النعوت والأوصاف بحق تجربة الأخوين عاصي ومنصور: حُكيَ عنهما كأسرة وكمشروع، كمؤسسة وكظاهرة. على تلك الأوصاف والنعوت تجوز أيضاً إضافة وصف "الدولة الرحبانية". ليس بغرض الإشارة إلى دولة سلطة ونفوذ، وإنما إلى دولة يوتوبيا؛ دولة حلم ودولة بديلة، سواء للبنان أو لبلدان تحيط به وتآخيه، لم تزل جميعها في أطوار عسيرة من التحول إلى دول. دولة حلم في ظل واقع غياب للدولة وتشظّي الأسس اللازمة لنشوئها. ذلك ما أشار إليه نجل عاصي زياد في تحية إذاعية أرسلها إلى والده عام 1990 في الذكرى الرابعة لرحيله. عبر لغة شعرية مجازية ساخرة نالت من مختلف الأطراف المنخرطة في الحرب الأهلية اللبنانية وهي تشرف على انقضاء عقدها الثاني، وانتقدت مساعي استلاب إرث العائلة الفني والثقافي وتجييره سياسياً، تحدث الابن كيف أن الأب قد تمكن من بناء دولة عظمى لم توجد سوى في الحلم.

يستحق عاصي أن "يوارى الثرى بتراب كل لبنان" يستطرد زياد، وليس فقط في مسقط رأسه أنطلياس. لبنان الذي صنعه عاصي نفسه بواسطة الموسيقى والجد والهزل ليبدو "أخضر وحلو" في إشارة إلى العالم السردي السامي والفريد الذي أحدثه مسرح الرحابنة الغنائي بوسائل القصّ السحرية، التي صنعت من بنات وأبناء القرى اللبنانية شخوصاً أسطورية ومن لبنان وطناً سرمدياً يرقى فوق احتراب أبنائه، وتنازعهم على هويّته ومعناه.

مثّل صوت آلة البزق، التي أجاد عاصي العزف عليها والمتجذّرة في فلكلور المنطقة، موضوعة تعريفية ترد بتواتر متصل ضمن الأغنيات ومقاطع الموسيقى المسرحية التي وضع لها الألحان، يدلّل من خلالها على لبنان الحلم. في أغنية "نّسم علينا الهوى" التي لحنها الأخوان رحباني وقدمتها فيروز ضمن مشهد من فيلم "بنت الحارس" (1986)، تفتتح الآلة الوترية الأغنية بلحن استهلالي، فيما تُصوّر الكاميرا مرفأ بيروت من على علوّ كما لو أنها عين جبل مُطِلٌّ عليه، ثم يبدأ البحارة والصيادون بشكل جماعي أشبه بكورس من كل الشعب، بغناء كوبليه يناجي نسيم الهواء أملاً في أن يدفع بسفنهم ومراكبهم، ويعيدهم إلى بلادهم.

بالنسبة إلى عاصي، فإن دولة اليوتوبيا الرحبانية لا يمكن إحداثها من دون إبداع لغة جمالية خاصة جديدة تؤلّف كلماتها ونغماتها أبجدية الحلم. لغةٌ لم يقتصر مجالها التعبيري على نصوص الأشعار، وإنما توسّع في التلحين والقولبة والتوزيع لتستجيب أولاً إلى مديات التأثير الدرامي الذي تقتضيه المسرحية الغنائية، ثم ثانياً إلى تنوع الآلات الموسيقية التي استخدمها في وضع ألحانه. واستلهم الأمثلة المبكرة على الجمع بين الآلة الشرقية والغربية في سياق التجربة المصرية لحقبة الأربعينيات والخمسينيات، ومن ثم تطويرها لتُصبح من جهة هوية جمالية رحبانية ومن جهة أخرى عنصراً مؤثراً في آلية القصّ.

آلية القص في المدى اللغوي، كما تصورها عاصي وأخوه منصور وطوّراها وفق ذلك التصور، تتجاوز مجال السردية إلى فضاء الشعرية، ليُصبح الشعر لغة محكية يتكلمها مواطنو الدولة الحلم. ساهم في إيجاد تلك اللغة الطوباوية الشاعر اللبناني سعيد عقل (1902 - 2014)،  حيث تضافرت عبقريته اللسانية إزاء اللهجة اللبنانية المحكية مع حساسية عاصي الشعرية في إبداع مشاهد وحوارات غنائية تحلّق بمخيلة المشاهد فوق مستوى السرد التقليدي، كما في أغنية "طل الورد عالشباك" التي قدمتها فيروز سنة 1972 ضمن مسرحية "ناس من ورق". إذ يصوغ عقل والرحابنة حوارية رمزية بين إنسان عاشق والورد، موكلين مهمة القصّ إلى الأخير، ترافقه وترفده درامياً جملة موسيقية شاعرية أُلّفت بطَرقات على آلة البيانو وتآلفات للوتريات.

ظل الشعر لغة الرحابنة حتى عندما لم ينظمه عقل. تميّزت النصوص التي كتبها الأخوان بنفسيهما ومن ثم وضعا لها الألحان بذات التعلق الوجودي بالرمز وبالمجاز. فلا تتناول أغانيهم موضوعة الحب مثلاً إلا عبر وسيط قصصي يُزيح عنها وزر الخطاب الصريح المباشر. في أغنية "يا رعيان الجبال" التي قدمتها فيروز ضمن مسرحية "جبال الصوان" (1969)، لا تُعرض مشاعر الشوق والتيم من خلال خطاب ذاتي، وإنما من خلال مشهدية سردية. لا تبوح العاشقة، من حنجرة فيروز، للمستمع بعشقها، وإنما تخاطب الرعيان إن هم صعدوا الجبل أن ينقلوا للحبيب حديث الحبيبة.

الحديث المنقول هو، في لغة الشعر، لا يصف ظاهر الحب وأحواله وإنما يرسم صوراً ويبث رموزاً تبعث في وجدان المستمع مشهديّات موضوعية يتماهى بها ذاتياً. أما الموسيقى فيُسند إليها تحميل الصور الشعرية درامياً. تتوارى الفرقة الموسيقية كما لو كانت جوقة صوتية، تارة تردد خلف المغني، وتارة تكمل الجملة اللحنية كأنها ترد بتعليق مؤيّد مقتضب.


  
عام 1963 وفي ذكرى رحيل القس والملحن اللبناني بولس الأشقر، الذي كان معلماً لعاصي ومنصور الرحباني، قال عاصي: "قد وصلت ألحانه (ألحان الأشقر) إلى قلوب الناس، ومن هنا كان عظيماً. إذ إن الوصول إلى القلب ليس هيّناً. قد تصل إلى آخر الدنيا، ومع ذلك، لا تستطيع أن تدرك تلك المسافة الصغيرة إلى قلب جارك". وفاءً لدين المعلم على تلامذته، سعى الأخوان إلى إبداع لغة جمالية تصبو إلى إدراك القلوب، في أزمنة تاهت فيها القلوب.

للغتهم الجمالية شيدوا مسرحاً سحرياً بديلاً عن الوطن المكلوم، أثاثه الجبل والبحر، شخصياته أساطير آدمية بأزياء قروية وشجون دنيوية، وبزق عاصي صوت لبنان الحلم.   

المساهمون