ظهور واختفاء أماكن العرض المستقلة في مصر

22 فبراير 2021
فرقة "نغم مصري" على مسرح ROOM Art Space (فيسبوك)
+ الخط -

بين عامَي 2005 و2016 وبالتزامن مع بلوغ الموسيقى المستقلة في مصر ذروة شهرتها وانتشارها ونجاحها، عرفت المسارح الفنية انتعاشة كبيرة. في تلك الفترة كان "الطلب" على الفِرق والفنانين المستقلين كبيراً، سواء في البرامج الإعلامية أو الإعلانات التجارية، وهو ما أدى إلى ارتفاع كبير في عدد الحفلات التي يحيونها، وبالتالي بروز حاجة إلى مسارح جديدة تستقبل هذا النوع من الموسيقى والموسيقيين.

وكان مسرح ساقية الصاوي، قد بدأ بتمهيد هذه الطريق منذ افتتاحه عام 2005 مفسحاً المجال أمام فنانين مختلفين للصعود إلى المسرح وتقديم إنتاجهم أمام جمهور محدود وقتها. عامل آخر أعطى للفنانين المستقلين مساحة للعرض وفرصة ذهبية: برنامج "البرنامج؟" مع باسم يوسف. إذ كان "البرنامج" هو الأكثر مشاهدة في مصر، واستقبل بشكل أسبوعي فرقة أو فنانا/ة مستقلة. فعرفت هذه الفرق كيف تصل إلى عشرات ملايين المشاهدين الذين كانوا ينتظرون برنامج باسم يوسف. نذكر على سبيل المثال: كايروكي، ولايك جيلي، ودينا الوديدي وغيرهم... وإلى جانب الشهرة فتح البرنامج فرص عمل كبيرة للتقنيين العاملين في مجال الموسيقى من مهندسي صوت وإضاءة، وهو ما خلق دائرة متكاملة من العمل والفرص لكل العاملين في صناعة مشهد موسيقي مختلف.

هكذا شهدت الأعوام الـ11 هذه انتعاشة كبيرة وولادة مسارح صغيرة في مختلف أنحاء القاهرة: مسرح الجنينة، وروابط، وساقية الصاوي، ومكان، وRoom art space، ودرب 1718، وبيت الرصيف... كل هذه المسارح باستثناء ساقية الصاوي، لم تكن تفرض أي شروط على المحتوى الإبداعي الذي يقدمه الفنانون. وحدها "الساقية" كانت تدقّق بكلام الأغاني والعروض، للتأكد من المحتوى. 

رفعت المسارح أسعار التذاكر بسبب انخفاض قيمة الجنيه المصري

هكذا كان الدور الأساسي لهذه الأماكن، هو تقديم منصة يبدأ منها الفنان أو الفرقة مشوارهم الفني، فلم تضع سقفاً عالياً للأرباح المادية، ولم تصوّر نفسها على اعتبارها صانعة للنجوم. وكانت هذه الحفلات الصغيرة توفّر دخلاً مادياً مقبولاً للجميع، وهو ما جعل كثيرين يتعاملون مع الموسيقى كمصدر حقيقي للدخل وليس كهواية. كذلك ظهرت في تلك الفترة الملاهي الليلية كـ"كايرو جاز كلوب"، و"ذا تاب" وهي أماكن مخصصة بشكل أساسي لأبناء طبقة معيّنة من المجتمع المصري. قدّمت هذه الملاهي فرصة للفنانين المستقلين كذلك لعزف موسيقاهم على مسرحها الصغير. لكن كان الجميع يعلم أن الهدف من هذه العروض كان فقط تأمين خلفية موسيقية لطيفة ومختلفة للساهرين، من دون تركيز حقيقي في المحتوى الذي يُقدّم.

لكن تدريجياً وبين عامي 2013 و2016، بدأ الخناق يضيق على المسارح الصغيرة، وبدأت تقفل تدريجياً، وهو ما انعكس بشكل مباشر على المشهد الموسيقي المصري. أسباب الإقفال؟ سياسية واقتصادية ــ سياسية  في الدرجة الأولى.
نبدأ من الخوف من التجمعات الذي ظهر منذ 2013 بسبب العمليات الأمنية التي شهدتها القاهرة، فكانت الحفلات تلغى بالجملة "لدواعٍ أمنية"، وهو ما جعل الرعاة يبتعدون تدريجياً عن تقديم الدعم لمثل هذه النشاطات الفنية. ثمّ جاء اختفاء الممولين بشكل تدريجي، بسبب الظروف الأمنية والسياسية التي بدأت تظهر معالمها بشكل واضح بعد 30 يونيو/حزيران 2013. وقسم كبير من هؤلاء الممولين كانوا من المنظمات والمراكز الثقافية الغربية، وقد فرض النظام إجراءات تقييدية كبيرة على أموالهم.

في نفس الأهمية جاء تعويم الجنيه المصري ليسدد ضربة قاضية لهذا القطاع، إذ لجأت المسارح إلى رفع أسعار التذاكر، وهو ما أبعد شريحة واسعة من الجمهور (أغلبه من الشباب والطلاب)، الذي وجد أن 100 أو 200 جنيه ثمن تذكرة لحفلة موسيقية رقم كبير وخارج قدرته. علماً أن هذه الزيادة كانت لتقليص حجم الخسارة وليس لزيادة الأرباح.

وأخيراً يأتي العامل الرابع وهو زيادة الضرائب على قيمة التذاكر منذ ديسمبر/كانون الأول 2016 الذي حوّل الوضع إلى ما يشبه المهمة المستحيلة. كذلك تجدر الإشارة إلى حفلة "مشروع ليلى" عام 2018 التي أدت إلى سجن عدد من الشباب والفتيات، وأطلقت حملة شرسة على المشهد الموسيقي المستقل كاملاً في مصر، على غرار ما حصل في التسعينيات وقت اتهام فناني "الهيفي ميتال" و"الهارد روك" بـ "عبادة الشيطان".

أمام كل ما سبق قضى هذا الحصار السياسي والاقتصادي على مساحات العرض، ولم يبقَ داخل القاهرة سوى 4 أماكن تستقبل الفرق المستقلة. انعدمت المنافسة، وهو ما جعل إمكانية تطوير فرقة مؤلفة من 4 أو 5 أشخاص أمرًا شبه مستحيل، بل أبعد من ذلك، باتت إمكانية تأمين دخل مادي من الموسيقى أمرًا صعب المنال. نتيجة لهذا الواقع بدأت الفرق تختفي، ولم يبقَ في الساحة سوى 5 فرق كبيرة تحتل المشهد (كايروكي، ومسار إجباري، وشارموفرز، ووسط البلد، ودينا الوديدي) فيما تكافح بعض الفرق الصغيرة للبقاء من خلال خلق مصادر دخل بديلة عن الحفلات. اليوم ومع تفشي فيروس كورونا تبدو استعادة المشهد لصحته وحيويته مستبعدة تماماً، ويهدد ما تبقى من مساحات تبدو حتى الساعة قدرتها على تحمّل الخسائر مجهولة.

المساهمون