طارق صالح (2/2): "ما يحقّقه الفن أنه يُمكّننا من فهم الإنسان"

20 فبراير 2023
طارق صالح: لستُ قومياً لكنّي أحب أماكن معينة تعني لي الكثير (تيم بي ويتْبي/Getty)
+ الخط -

 

(*) عام 2015، صوّرتَ "حادثة النيل هيلتون"، هنا في المغرب، بعد إجبارك على مغادرة مصر. ما الفرق بين تلك التجربة، وتجربة تصوير "ولد من الجنّة" في تركيا؟

كنتُ أخطّط لبناء ديكور الأزهر هنا في مراكش، مع كريم الدبّاغ (مدير شركة "قصبة فيلم" لتنفيذ الإنتاج ـ المحرّر)، الذي أحببتُ التعامل معه، والتعاون بيننا طويل، وأنا أحبّ المغرب. كنتُ أنوي تصوير فيلم أميركي هنا أيضاً. لكنْ، بسبب كورونا، لم أكن متأكداً من أنّ التصوير هنا لن يتوقّف، بينما في تركيا أمكننا ضمان ذلك، بحكم علمنا أنّ (الرئيس رجب طيب) أردوغان لا يستطيع تحمّل كلفة إغلاق الحدود. عدد الكومبارس في الفيلم يُشير إلى أنّ هناك "كابوساً مرعباً". أتذكّر أنّي قلت للأتراك، في أول اجتماع لفريق الإنتاج: "عليكم إجراء اختبارات لفحص كوفيد لكلّ الكومبارس"، فردوا عليّ قائلين: "سنكون صادقين معك. لن نجري اختبارات لكلّ الكومبارس. سيعودون إلى عائلاتهم في المساء، ولا يمكننا تحمّل تكاليف عزلهم". قلتُ لنفسي: "حسناً. سيكون فيلم رعب ما سنصوّره" (يضحك).

 

(*) هل هناك احتمال لعرض "ولد من الجنّة" في مصر؟

لا، لن يتمّ ذلك. ستتمّ بالطبع قرصنته وتحميله على نطاق فردي، لأنّهم يحبّون ذلك في مصر، ويُحتَمل أنْ يتصدّر شباك التذاكر على "piratebay" (يضحك).

 

(*) لديك خلفية غنية من المراجع المختلفة، بسبب تأرجح ثقافتك بين السويد، حيث نشأت، ومصر، حيث ترعرع والداك. هل تعتقد أنّ كونك من ثقافة مزدوجة ساعدك على تكوين وجهة نظر مختلفة عن واقع مصر المعاصرة؟

بالتأكيد. يبدو الأمر كما لو أنّ معظم صانعي الأفلام المهمّين مهاجرون، أو أطفال مهاجرين، وليسوا أوفياء إلى بلدانهم بالطريقة القومية. أنا لستُ قومياً. أعتقد أنّ القومية فكرة عقيمة وسخيفة. ما معنى أن تكون فخوراً بالمكان الذي ولدت فيه، بينما لم يكن لك أيّ دخل في ذلك؟ إنّها مجرّد صدفة، فلماذا أنت فخور بها؟ كأنْ يقول أحدهم: "أنا فخور بكوني سويدياً". لماذا؟ ربما يكون في ذلك امتياز، وهذا موضوع آخر. في هذه الحالة، يجب أنْ تخجل من نفسك إذا لم تنجز شيئاً رائعاً، لأنّك تتمتع بامتياز. لستُ قومياً، لكنّي أحبّ أماكن معينة، تعني لي الكثير، كالإسكندرية والقاهرة والدار البيضاء واستوكهولم.

إذا نظرت إلى ميلوش فورمان أو بيلي وايلدر أو فرنسيس فورد كوبولا أو مارتن سكورسيزي، جميعهم أبناء مهاجرين. يحكي كوبولا نوعاً ما قصة الحلم الأميركي في "العرّاب"، لأنّه يعرف جيداً، طبعاً، ما يعني أنْ تحاول بناء حياتك حين تكون من عائلة مهاجرة. يمكنه قول أشياء معينة عن أميركا، ربما لا يستطيع الأميركي من أجيال عدة قولها. يتناول فورمان الولايات المتحدة الأميركية في "تحليق فوق عش الكوكو"، بخلقه نوعاً من مجتمع مصغّر في مستشفى أمراض نفسية. هل لمخرج أميركي نظرة كهذه، أم أنّ وجهة نظر المهاجر، الوحيدة، قادرة على ذلك؟

مثلٌ أكثر تطرّفاً: عندما حقّق لارس فون ترير ثلاثيته عن أميركا، و"دوغ فيل" رائعتها، لم يسبق له أنْ زار أميركا، لأنّه يعاني رهاب الطيران. رغم ذلك، أو ربما بفضل ذلك، صنع أحد أعظم الأفلام عن أميركا.

 

(*) أعدت خلق القاهرة في الدار البيضاء، بمناسبة "حادثة النيل هلتون"، ودفعت الأمور إلى أبعد من ذلك بتصوّر الأزهر في تركيا. يحتاج الأمر إلى إيمان كبير وعميق بالسينما وسحرها لإعادة خلق الفضاء بهذه الطريقة.

ما طرحته مركزي للغاية. أعتقد أن أحد أكثر الأشياء التي ينفطر لها قلبي كمخرج أنّي مهووسٌ بالتصوير في مصر، ثم مُنعتُ من ذلك. لذا، خطّطت كثيراً قبل بدء التصوير في الدار البيضاء. كيف أحصل على قسم شرطة يشبه ما في القاهرة؟ أمضيتُ فترة طويلة هناك، وتجوّلتُ في كلّ الأنحاء، بحثاً عن شارع وزقاق يمكن أنْ يبدوان كالقاهرة. استخدمتُ مؤثّرات بصرية كثيرة أيضاً. أنتم أدرى منّي بمقدار العمل المُنجز، فلا شكّ أنكم تقولون، عند مشاهدة الفيلم: "انتظرْ. ما هذا؟ هذا الشارع لا يوجد هنا".

 

 

(*) تماماً. أنا أعيش في الدار البيضاء، وأعرف جيّداً هذا الشعور.

(يضحك) على أي حال، ما أريد قوله، أنّي تعوّدتُ، كلّما تحطّمت آمالي أو شعرتُ بالإحباط، أن أفكّر في أبطالي السينمائيين، وأحاول أنْ أخمّن كيف سيتصرفون لو كانوا مكاني. عند طردي من مصر، كانت ابنتي الأولى قد ولدت قبل أسبوعين فقط من بدء التصوير. النتيجة أنّي كنتُ هشّاً جداً. لم أرغب في التحدّي، أو التعرّض للأذى، أو دخول السجن. كنتُ أرغب في رؤية ابنتي من جديد، فقرّرت التوجّه إلى الدار البيضاء. بعدها، كنتُ أتساءل ما إذا كان القرار صائباً، فوجدت الجواب في "أماركورد" فيلّيني، وكيف أنّه لم يصوّر مُطلقاً في مسقط رأسه ("ريميني"، حيث تجري القصة ـ المحرّر)، بل صوّر كلّ شيء تقريباً في روما. يُحكى أنّ أهالي البلدة، عندما شاهدوا الفيلم، تعرّفوا عليها، وكانوا جميعهم يهتفون "نعم، هكذا كان الشارع الرئيسي. يا إلهي إنها المخبزة. هذا هو الرجل الذي...". لذلك، أصبح الأمر هاجساً بالنسبة إلي. أريد أنْ أكون واضحاً بشأن ذلك.

في حالة "ولد من الجنة"، كنتُ أعرف منذ كتابة السيناريو أنّي لنْ أصوّر في القاهرة، لذا كان الأمر مختلفاً. قرّرت منذ البداية إنشاء نسخة تخييلية من الأزهر، وكان مهمّاً جداً لي أنْ أبحث عن الحقيقة في القصة الخيالية مُجدّداً. عندما دخلتُ مسجد سليمان القانوني، وجدته تحفة معمارية حقيقية. نعلم أنّ سِنان (معمار سنان مُصمّم المسجد ـ المحرّر) سبق أنْ زار الأزهر ودرس هندسته. كنتُ أسير في المسجد، وكما تعلم، عندما تصنع فيلماً، يبدو الأمر كما لو أنّك تخوض حرباً. كنتُ كرئيس أركان، محاطاً بجنرالاته الذين يسعون إلى إخباره بما يريد سماعه. مشرف المؤثرات الخاصة يطمئنني قائلاً: "طارق. لا تقلق. هناك الكثير يمكننا القيام به هنا. إذا صوّرنا من هذا المحور، سأعمل على تغيير المآذن، وسأفعل هذا، وأفعل ذاك". ثم ينطلق مصمّم الإنتاج: "سنعيد خلق الباب هناك، ونقوم بتغطية هذا المدخل". ثم يدخل مدير التصوير على الخطّ: "هل تعلم أنّنا إذا صوّرنا من هنا بعدسة بمقياس أربعين، سيظهر كذا وذاك؟".

كلّ هذا، وأنا مُطرقٌ أفكّر صامتاً، قبل أنْ أقول: "أنا وسط تحفة معمارية من إبداع سِنان، ولن أغيّر فيها شيئاً. سأجعل منها الأزهر، مستفيداً من ميزة الحرية الفنية".

 

(*) هل تؤمن بقدرة السينما على خلق نقاط التقاء جديدة، حيث يمكننا مناقشة القضايا المعقّدة من دون تأثير وجهات النظر الأيديولوجية؟

نعم، مائة بالمائة. أعتقد أنّك تشير إلى أمر مهم للغاية. بصفتي صانع أفلام، أقف دائماً إلى جانب الإنسان. أعتقد أنّنا، في العالم العربي، نحبّ المؤامرات بشكل خاص. نمتلك الحزام الأسود في نظرية المؤامرة. في مصر، بمجرّد أنْ تستحضر موضوعاً ما مع أحدهم، حتى يقول: "آه، نحن نعلم أنّها اختُرعت في مكاتب كذا وكذا، بهدف كذا وكذا" (مُقلّداً نبرة المؤامرة ـ المحرّر). ما هي المؤامرة تحديداً؟ المؤامرة تفكير سحري، وظاهرة نفسية يلجأ إليها الأشخاص الذين لا يملكون السلطة، لوضع المسؤولية في مكان آخر. مُريح جدّاً لنا التفكير في أنّ الأشخاص في مواقع السلطة أقوياء جداً، إلى درجة أنّهم نسّقوا كلّ شيء.

في اعتقادي، إذا أصحاب السلطة في مصر دبّروا الفوضى المرورية في القاهرة، فهذا بنظري ينطوي على فشل في القيادة، بالأحرى. لنكن صادقين. الماء غير متوفّر، إذاً هناك فشل في "الحكامة". الأمر بهذه البساطة. إذا كانت هناك مؤامرة ما حقّاً، فقد فشلت. عملي كمخرج أنْ أقول: المسؤولون في مركز القرار بشرٌ مثلنا. كما تعلم، أحياناً كثيرة، ليس عدوّك من يقتلك، بل تموت على يد صديقك. اسأل ليز تراس. لم تُجهز عليها المعارضة، بل وزراؤها طعنوها في الظهر، عندما اقتنعوا بقرب سقوطها. لهذا السبب، من أهم رسائل هذا الفيلم، أنّ إبراهيم لا يواجه الإخوان المسلمين، بل ينتفض في وجه رئيسه، لأنّه مُقتنعٌ بأنّه أخرق ومختلّ عقلياً، ولهذا، فهو لا يتّفق معه. بطريقة ما، إذا كان هناك شيء واحد يمكن للفن أن يحقّقه، فهو أنّه يُمكّننا من فهم الإنسان.

المساهمون