يكتسب نقد الرواية الإسرائيلية وإعادة تفنيد أكاذيبها أهمية خاصة عندما يصدر من مفكرين ومؤثرين يهود خصوصاً في الغرب، فهؤلاء الذين سعت الحركة الصهيونية عبر تاريخها إلى استمالتهم لتكسب عبرهم ثقلاً فكرياً، من شأنه أن يخلق حول المشروع الاستعماري الاستيطاني هالة مزيفة، يمكن تصديرها كدعاية على أن دولة الاحتلال تُعلي من شأن العلم والفكر، وتنتج للعالم مفكرين. بيد أن كثيراً من هؤلاء المفكرين انتفضوا على السردية الصهيونية، وكشفوا عن وحشية الاحتلال في الأراضي المحتلة.
يهود في مواجهة آلة القتل
يتسنّى لمن يقرأ كتاب المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، الذي أعده بالشراكة مع المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه "غزة في أزمة.. تأملات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين"، أن يدرك أن ما يشهده قطاع غزة اليوم ليس حدثاً منفصلاً عن السياق التاريخي، بل حلقة في سلسلة متصلة بدأت مع بداية التطهير العرقي، أي مع الاحتلال نفسه، فقبل 7 أكتوبر لم يعش الغزيون سلماً، والأمر أيضاً لم يبدأ مع الحصار الخانق عام 2007 الذي حول غزة إلى "سجن في الهواء الطلق" على حد وصف نعوم تشومسكي.
لدى تشومسكي الكثير ليقوله بخصوص القضية الفلسطينية، التي يعتبرها "القضية الرئيسية في حياته"، ومن شأن الرجل الذي وُلد لأسرةٍ يهودية، شهد معها رعب النازية، أن يكون أحد أهم العقول الفكرية.
على الرغم من أنه هاجر في عشريناته إلى الأراضي المحتلة، وكان حينها متحمساً للحركتين الأناركية والصهيونية، يقول: "لم أستطع تحمّل الجو الأيديولوجي والحماسة القومية"؛ فعاد إلى أميركا، ومن هناك ذاع صيته كعالم لسانيات ومفكر ناقد للسياسات الأميركية، وما يسميه "الليبرالية المتوحشة".
عند الحديث عن المفكرين والأكاديميين المناصرين لفلسطين، لا يمكننا إغفال تشومسكي، فالمفكر البالغ من العمر 95 عاماً قضى معظمها في دراسة اللسانيات، لم يغضّ الطرف عن أشد القضايا المعاصرة تعقيداً، ألا وهي القضية الفلسطينية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
قد يتصل الأمر اتصالاً مباشراً بذاكرته الشخصية؛ فهو اليهودي الذي اتهمه الصهاينة في ما بعد بمعاداة السامية، كونه اتخذ مسلكاً مغايراً عن السائد بين أبناء مجتمعه، طريقاً يمكن أن نصفه بالانعطافة عندما تنبّه إلى خطورة ما تقترفه إسرائيل ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض.
يقف تشومسكي على أعتاب المدينة المحاصرة بعد سنوات من الحصار، ليكتب مقالاً مطولاً يصف فيه ما رآه من وحشية وانعدام القيم الإنسانية لدى الاحتلال، ويفتتحه بجملٍ تنقل البؤس المخيِّم على قطاع غزة، فيقول: "لا يحتاج المرء إلى أكثر من يوم واحد في غزة ليشرع في تقدير ما تعنيه محاولة البقاء على قيد الحياة في أكبر سجن مفتوح في العالم، حيث ما يزال مليون ونصف المليون من الناس، في أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، موضوعاً مستمراً للإرهاب العشوائي والوحشي". وحين يتصوّر نفسه مكان المواطن الغزي القابع في زنزانة، يقول: "ربما يمكنك محاربة الاحتلال، لكنك لا تستطيع محاربة الشعور بأنك عاجز، بل إنك لا تستطيع حتى التخلص من هذا الشعور".
لعل تشومسكي من موقعه كأحد أهم المفكرين المعاصرين، وبالموقف اللاذع الذي اتخذه ضد الاحتلال، ساهم في لفت الأنظار إعلامياً إلى إشكالية القضية الفلسطينية وتواطؤ الإعلام الغربي، ولكن الموقف هذا دعمه أن صاحبه لم تأخذه الانحيازات القومية والدينية نحو الضفة الأخرى، فبقي حتى اليوم مشغولاً بإعادة تعريف مفاهيم "التطهير العرقي" و"الفصل العنصري" بناءً على سياسة الاحتلال الإسرائيلي الفاشي والاستعماري، على حد تعبيره.
في الكتاب الذي اقترح فكرته ونسقه الكاتب الفرنسي فرانك بارات، يستقرئ كل من تشومسكي وإيلان بابيه مستقبل قطاع غزة بعد الحصار، وذلك بإلقاء الضوء على جرائم إسرائيل المتزايدة التي تعتّم عليها أدوات السلطة في العالم، لا سيما الإعلام.
رواية بديلة
يذهب بابيه على نفس المنوال، وهو المؤرخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية والمنتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين طعن بعضهم بالرواية التي تقدمها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وساهموا في إنتاج رواية بديلة، لا سيما وأنهم استفادوا من الأرشيف الفلسطيني الإسرائيلي الذي يميط اللثام عن انتهاكات كبيرة واستبداد ووحشية لا يمكن طمسها من التاريخ الإسرائيلي. يعود بابيه للظهور بشكل مكثف على وسائل الإعلام بعد 7 أكتوبر والعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، مطيحاً بالدعاية التي تروج لديمقراطية دولة الاحتلال، مطالباً بالتوصل إلى حلّ دولي ينهي معاناة الفلسطينيين جراء الاستعمار.
لعل الإعلام اهتم ببابيه لكونه إسرائيليا ناقدا لاذعا للصهيونية ومناهضا للسياسات الاستعمارية التي تعيد إحياء إجرامها في كل عدوان. في الأيام الأولى من العدوان الأخير على غزة، كتب بابيه مقالاً بعنوان "إلى أصدقائي الإسرائيليين.. لهذا أنا أدعم الفلسطينيين"، يقول: "إذا كان المرء قد فهم، في مرحلة ما من حياته حتى بصفته مواطناً يهودياً في إسرائيل الطبيعة الاستعمارية الصهيونية، وإذا شعر بالهلع من سياستها ضد الشعب الأصلي في فلسطين؛ فإنه لن يضم رأيه إلى رأي المجتمع الذي ينتمي إليه". يضيف: "الحس الأخلاقي هو الذي دفعني مع أعضاء آخرين في مجتمعنا لدعم الشعب الفلسطيني بكل الطرق الممكنة". يشيد بابيه بقوة المقاومة الفلسطينية حين عبّر عن إعجابه بـ"شجاعة المقاتلين الذين استولوا على عشرات القواعد العسكرية، متغلبين في ذلك على أقوى جيش في الشرق الأوسط"، ولا يتردد بأن يصرح بالعبارة الخطيرة إذا ما نقلت على لسان رجل يحمل جنسية دولة الاحتلال، ألا وهي أن "حركة حماس هي حركة تحررية وليست منظمة إرهابية. وهذا الأمر ليس رأياً بل نتيجة علمية".
يأخذ صاحب "عشر خرافات عن إسرائيل" موقفاً نزيهاً يجعل منه مع تشومسكي وغيرهما في صفوف مثقفين يهود يميزهم إدوارد سعيد بأنهم أولئك الذين يقولون الحق في وجه القوة، فالانتهاكات والتعذيب والاعتقالات التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين جعلت من مفكرين يهود وإسرائيليين يدعمون فلسطين، ومعهم أيضاً جيف هالبر، عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلي، الذي بلغ به الأمر أن يرمي بنفسه عام 1998 أمام الجرافات الإسرائيلية التي هدمت بيوت المقدسيين.
الجرافات الإسرائيلية ذاتها التي طحنت بيوت الفلسطينيين، سحقت معها فكرة "إسرائيل" في ذهن هالبر؛ فيقول حين رأى آلات الحرب الإسرائيلية الموجهة ضد أصحاب الأرض العزّل إنه "فعل شنيع يتنافى مع أخلاقيات إسرائيل المزعومة". يتابع: "أخلاقيات الدولة الحميدة التي تدّعي بأنها تكافح من أجل البقاء؛ فالهدم ليس من منطلق الدفاع عن النفس، وإنما هو محض عمل ظالم ووحشي". هكذا، أسس هالبر اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت، وخلص خلال عمله إلى أن إسرائيل هدمت منذ نكسة عام 1967 حتى اليوم ما يقارب 60 ألف بيت ومسجد ومدرسة.
قبل أشهر من طوفان الأقصى، صدرت النسخة العربية لكتاب هالبر "تفكيك استعمار إسرائيل.. تحرير فلسطين"، إذ ناقش فيه المصطلح الذي يستخدم حتى في الخطاب الإعلامي العربي: "الصراع العربي - الإسرائيلي"، مشيراً إلى أن القضية قضية احتلال إسرائيلي ونضال فلسطيني من أجل التحرير، وليس صراعاً بين طرفين، فمفهوم الصراع يقتضي أن يكون كلا الطرفين شرعيين ومتكافئين. وكان هالبر مشغولا بنقد اللغة التي تهيمن عليها الحكومات ووسائل الإعلام والتي تسهل إدانة حركة حماس.
إبادة بدأت عام 1948
كما تشومسكي وبابيه، يرى هالبر أن العدوان الحالي على قطاع غزة يأتي ضمن سياق الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي بدأ عام 1948، وهذا العدوان يصب في خطة إسرائيل التاريخية التي تهدف إلى تحويل فلسطين إلى وطن لليهود فقط، ما يؤكد أن إسرائيل لم تقتل فحسب، بل تعمدت محو التاريخ. ويشير إلى أن إسرائيل تهدف إلى التخلص من الغزيين عبر إبادتهم أو تهجيرهم قسراً إلى الجنوب، والأمر ليس إلا "نكبة ثانية" على حد تعبيره.
بدوره، عاد المفكر الأميركي اليهودي، نورمان فينكلشتاين، للإدلاء بتصريحاته التي تدين إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى. ينحدر فليكشتاين من عائلة عاشت هول المحرقة النازية (الهولوكوست)، كما أبيد أفراد من أقاربه فيها، فوصف عبر حسابه على منصة إكس الإسرائيليين بـ"النازيين الجدد". وعلّق على تصريح وزير "الدفاع" الصهيوني يواف غالانت أن الاحتلال يحارب "حيوانات بشرية" بقوله ساخراً: "لماذا لا تختصر العملية وترش المكان بالمبيد الحشري؟".
فينكلشتاين الذي يعتبر من أبرز المنبرين دفاعاً عن فلسطين ضد أي سلطة تحاول اختلاق روايات مزيفة بغية التبرير لممارسات الاحتلال، هو أول يهودي منع من دخول دولة الاحتلال، وذلك بعد زيارته الأولى لفلسطين عام 1988، والتي أصبح من بعدها من الأصوات اليهودية المهمة المناهضة لإسرائيل والمناصرة لفلسطين. صاح فينكلشتاين صاحب "صناعة الهولوكوست" أن إسرائيل التي تقصف المستشفيات نازية وبربرية، ولا سيما مستشفى الشفاء في غزة الذي يمثّل في الذهنية الإسرائيلية رمزاً لحضارة المدينة المحاصرة. وفي سياق آخر، أشار إلى أن بعض اليهود خرجوا في التظاهرات المناصرة لفلسطين، وإسرائيل لا تمثّل اليهود، أما "الحق الوحيد الذي يمتلكه الإسرائيليون هو حزم أمتعتهم ومغادرة فلسطين"، على حد قوله.
بالنسبة إلى الناشط ومؤلف كتاب "ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين"، ميكو بيليد؛ فمسألة القضية الفلسطينية أكثر تعقيداً، فهو ابن ضابط في جيش الاحتلال وينحدر من عائلة صهيونية شهيرة، وقّع جده على تأسيس دولة إسرائيل، لكن صورةً من طفولته لأمه التي بكت على الفلسطينيين الذين هجروا قسراً من بيوتهم حفرت أثراً بالغاً في نفسه. وعلى الرغم من أنه تأثر في سنوات شبابه بأفكار والده وجده، إلا أنه أصبح ناشطاً للسلام، وذلك بعد أن رأى بأم عينه أن "الفلسطينيين يتعرضون للإرهاب كل يوم"، ليدرك في لحظة صحوة أن البلد الذي اعتقد أنه بلده هو في الواقع لأناس آخرين، وبالتالي استدرك بيليد أن "إسرائيل دولة إرهابية"، أما الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في 7 أكتوبر فرآها "عدوانية للغاية".
يدين بيليد وسائل الإعلام الغربية التي توجه أصابع الاتهام إلى حماس وتتعمد إدانتها وتحميلها مسؤولية الهجمات، مشيرا إلى أنه "من السخافة إدانة الأشخاص الذين تعرّضوا للاضطهاد لفترة طويلة، المقاومة كانت متوقعة. إذا أردنا القضاء على المقاومة فيجب علينا القضاء على الاضطهاد. المقاومة دائما رد فعل على الاضطهاد. لقد عاش الفلسطينيون أكثر من 75 عاما من القمع. وكان ردهم على أعمال العنف غير مسلح في الغالب".
وبعد وحشية ما رآه يومياً من الإجرام الإسرائيلي، يوجه بيليد رسالة إلى داعمي الاحتلال: "إسرائيل تمثل كل ما هو سيئ. إن الدعوة إلى دعم إسرائيل ستؤدي إلى مزيد من الموت والدمار والعنصرية، وهذا يعني المزيد من إزهاق أرواح الأبرياء. هذه حرب ضد السلام والعدالة". يشير بيليد إلى أن مطالب وقف إطلاق النار في غزة هي معيار منخفض. وقف إطلاق النار لا بد أن يكون بديهياً والمطلب الأهم هو تفكيك دولة الفصل العنصري الإسرائيلية.
يجمع هؤلاء المفكرون على أن عملية التطهير العرقي التي تحدث اليوم على مرأى العالم ما هي إلا حلقة في مسلسل طويل بدأ منذ 75 عاما بل وحتى أبعد، فخطة التهجير والإبادة قديمة، لكن ما اختلف اليوم هو أن طمسه وإخفاءه أصبحا ضرباً من المستحيل. قد نسمع تصريحات أكثر جرأة تصدر من أبناء المجتمع اليهودي، وربما الأمر يعود إلى شعورهم بالخزي من الوحشية التي يندى لها جبين الإنسانية والصادرة عن أبناء جلدتهم.