سريرٌ في المستشفى. فوق السرير امرأة بحجاب أبيض. فوق المرأة دمية بلاستيكية بقبعة زرقاء. تغرس الدمية رأسها في منتصف صدر المرأة، كطفل يبحث عن مصدر ذاك الصوت، صوت دقات قلب أمّه. تمرّ أصابع يد المرأة ببطء وصعوبة على قدم الدمية. هذه المرأة بعينيها التائهتين هي ليليان شعيتو. تلك الدمية البلاستيكية ليست علي ابن ليليان. هذا ليس مشهداً تمثيليّاً. هذا مشهدٌ من داخل مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، التقطه مصور وكالة رويترز عصام العبد الله.
ثماني ثوانٍ نشرها المصوّر في حسابه على موقع تويتر، جرّت خلفها موجة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي وسلسلة من التقارير الإخبارية.
في الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت، وبينما توجّهت عدسات الإعلام المحلي والعالمي إلى أهراءات المرفأ في انتظار سقوطها، أضاء العبد الله كاميرته داخل غرفة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، هناك حيث تتراكم نسخ رديئة من لبنان فوق جسد امرأة فاقدة للحركة. تتكوّم الجرائم فوق بعضها في غرفة ليليان شعيتو، واحدة من ضحايا تفجير مرفأ بيروت الذي وقع قبل عامين. سنحاول في ما يلي استعادة قصتها.
ليليان شعيتو من وقت الانفجار ومازالت بالمستشفى
— Issam Abdallah - عصام العبدالله (@LbIssam) August 1, 2022
ليليان بس بتقدر تحرك ايدها وترمش بعيونها
ليليان من وقت الانفجار ما شافت ابنها
عائلة ليليان احضرت طفل لعبة لتعوض ليليان عن فراق ابنها https://t.co/fSSSsMuWPM
@GebeilyM #beirutexplosion #مرفأ_بيروت #Reuters #Beirut pic.twitter.com/sDEuNNJa0U
في الرابع من أغسطس/آب 2020، توجّهت شعيتو إلى وسط مدينة بيروت لشراء بعض الأغراض. في تسجيلات صوتية أرسلتها حينها إلى زوجها، أخبرته عن رحلة بحثها عن كرز. بدا من حديثها أنها ملتزمة بحمية غذائية. مراسلات صوتية أخيرة قبل أن يهزّ لبنان، وتحديداً مدينة بيروت، انفجارٌ ضخم. هَوَت البيوت أرضاً ومات كثيرون، ودخلت شعيتو في غيبوبة. كان ينتظرها في البيت طفلٌ بعمر الشهرين، هو ابنها علي. دخلت المرأة في نفق مظلم، بدا في لحظتها أسوأ ما يُمكن أن يحصل لإنسان. لكن ولأنّ القلوب لا تعرف حدّاً للقسوة، لاحقها الأحياء (زوجها وعائلته) إلى سرير المستشفى، ليحرموها وأهلها من رؤية ابنها. تسرّبت قصتها إلى العلن، وتناولها الإعلام عشرات المرّات.
منذ سنتين، وحياة هذه المرأة مُعلّقة بين وقائع لجريمتين منظمتين، الأولى سلبتها جسدها والثانية تسلبها حقّها وأملها شبه الأخير بالشفاء. ما بين التفجير الذي أصابها في الرأس، وسطوة المحكمة الجعفرية التي حرمتها ابنها وحقها في السفر، يعود الإعلام إلى قصة شعيتو بين حين وآخر، وفي كل مرة يُصاب الرأي العام بالصدمة والذهول. كيف يُمكن لكلّ هذا أن يحصل؟ مشهد واحد، فيديو بثوانٍ قليلة أزاح العفن عن كل ما تواجهه النساء اللبنانيات.
يتنازع سرير ليليان شعيتو كثيرٌ من أزمات البلد. أفقدها الأخير صحتها وحقها في العيش بأمان، ثمّ أتى الزوج ليسحب منها ابنها. أفقدها البلد أموالها بعد أن سطت عليها البنوك، ثمّ أتى الزوج ليسحب منها حريتها عبر حجز جواز سفرها. كلّ ما يُمكن أن يساعد هذه المرأة على الخروج من المستشفى سطا عليه النظام بمحاكمه الدينية ونظامه المصرفي وانعدام الرعاية الصحية فيه. ليس خفيّاً على أحد، ولا يحتاج الأمر إلى جرعات عالية من الذكاء، فرضية تأثير وجود الطفل قريباً من والدته في تسريع رحلة تعافيها. لكن، وفي إصرار مريب ومخيف في آن، يرفض الزوج وعائلته ترك الطفل في حضن أمّه. والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل كلّ محاولات الأهل نقل ابنتهم إلى خارج لبنان لتلقّي العلاج باءت بالفشل. لماذا؟ لأنّ الزوج يحجز على جواز سفرها، ويفرض عليها حجراً صحيّاً ويضعها تحت وصاية المحكمة الجعفرية.
هذه هي رواية أهل شعيتو. بينما رواية الزوج فيشوبها الكثير من علامات الاستفهام. في البيان الأخير الذي أصدره، بعد الضجة الإعلامية الكبيرة حول القضية، يعترف بقرار المحكمة الجعفرية بتسليم الولد إلى جدته ليتمكّن من رؤية أمه. لكنه يرمي المسوؤلية على إدارة المستشفى والأطباء الذين يمنعون تحقّق هذه الزيارة. بيان حسن حدرج، زوج ليليان، أثار الجدل من جديد، قبل أن ينجح الضغط الإعلامي في إجباره وعائلته على القبول بزيارة الطفل لوالدته في المستشفى.
حركة واحدة من كاميرا عصام العبد الله أعادت توجيه البوصلة إلى مكانها. هنا أصل الحكاية، وهنا امرأة يجب إنقاذ ما تبقى لها من حياة. هنا معركة لا بُدّ من خوضها، وتحديداً على المستوى الإعلامي. إلى الآن، لم يجرِ نقاش قضية شعيتو بجديّة وصلابة في الإعلام اللبناني. تقارير إخبارية عن حالتها الصحية، وعن تعنّت زوجها وعائلته في منعها من رؤية طفلها. لم نرَ كاميرا واحدة مزروعة أسفل بيت عائلة الزوج، أو أمام المحكمة الجعفرية لمساءلتها عن دورها في رحلة الظلم الطويلة، سواء في حالة شعيتو أو غيرها الكثير من النساء. لا محاولات تسلّل ولا أسئلة صحافية. لا يبحث الرأي العام عن جواب يُبرّر موقف الزوج أو موقف المحاكم الدينية. تبدو الأمور واضحة، خاصة وأن معركة النساء اللبنانيات مع المحاكم الدينية طويلة وممتدّة.
جولة في مواقع التواصل الاجتماعي تكفي لقياس حجم الغضب والشعور بالعجز. ندين جميعاً بالاعتذار من ليليان شعيتو، من استعراض حياتها هكذا في العلن من دون أخذ إذنها. نعتذر عن تداول صورة ابنك، بعد السماح له بزيارتك، والذي يبدو أنه لم يكن ممكناً من دون كل هذه الضجة. ولكن ألا تستحقّ هذه المرأة محاولة لإنقاذ حياتها واستعادة لحقها؟ ألا تستحقّ قضيتها ساعات من البثّ والكثير من صفحات الصحف؟