صورة أمّ غزيّة تحجب أمومة بيكاسو

29 أكتوبر 2024
في المتحف الوطني في بريطانيا (الأناضول)
+ الخط -

"المملكة المتحدة متواطئة بالإبادة الجماعيّة في قطاع غزة"، هذه العبارة قالها ناشط من منظمة "الشباب يطلب!" البريطانيّة أثناء اعتقاله في الصالة 43 في المتحف الوطني في بريطانيا، بسبب لصقه صورة لأمّ غزيّة وابنها، فوق لوحة بيكاسو "الأمومة" التي تعود إلى عام 1901، بعدها أراقت ناشطة أخرى طلاء أحمر تحتها، قبل أن تظهر قميصاً يحمل عبارة "أوقفوا تسليح إسرائيل".

لم تتعرض لوحة بيكاسو لأي أذى بحسب إدارة المتحف، كونها محميّة بزجاج مضاد للرصاص، لكننا أمام مفارقة صادمة للمتفرجين، خصوصاً أن لوحة تنال من الحماية أكثر ما تناله غزة بأكملها، كما نرى في الصورة التي التقطها المصور الفلسطيني علي جاد الله الذي استشهد تسعة من أفراد عائلته إثر قصف الاحتلال الإسرائيليّ على غزة مطلع حرب الإبادة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أكثر من 41 ألف شهيد في غزة، والعالم لم يتحرك، ولم يتّخذ أي خطوة حقيقية لوقف الإبادة بحق الفلسطينيين المدنيين، فهل يمكن لتحرّك مثل الذي حصل في المتحف الوطني في بريطانيا أن يغيّر هذ الواقع؟

الاحتمالات ضئيلة جداً. لكن ماذا عن زعزعة أمن المتحف، هل يلفت النظر إلى غزة؟ ربما، خصوصاً أنّ أولئك المحدقين باللوحات وضربات الريشة ومحاولة التنبؤ بالحكاية وراء اللوحة، ربما، قد يتغير شيء فيهم، يتحول إلى فعل حين يحدقون بصورة أمّ غزيّة تحاول إنقاذ ابنها.

حركة "الشباب يطلب!" المتفرعة عن حركة "أوقفوا النفط" لطالما قامت بتحركات شبيهة في المتاحف، سواء برمي الحساء على اللوحات أو الطلاء، لكن هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها صورة فوتوغرافيّة، لحدث راهن، وإبادة جماعية مستمرة منذ عام. والمفارقة أنها غطت لوحة لبيكاسو، صاحب الغارنيكا، المستوحاة من قرية الغارنيكا الإسبانية، التي قصفها الألمان، وتضامن سكانها مع قطاع غزة قبل أشهر. نحن إذاً أمام طبقات من المعنى تجعل ما حصل يتجاوز الاحتجاج نحو فن الأداء.

هنا لا بد من استعادة سؤال متكرر، بل أصبح مبتذلاً، في عالم الفن، وهو قيمة العمل الفني أمام الحياة الإنسانية، التي أصبح من الواضح أن قيمة الفن فيها أعلى. لكن إن كان "لا شعر بعد أوشفيتز" بحسب تعبير الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنوا، فما الذي يستحق النفي بعد غزة؟ الفن؟ الشكل القائم للعالم؟

يمكن القول، إنه بعد إبادة غزة، لا بد من إعادة النظر في كل شيء، الشعر والفن والسينما والمسرح، كل الأشكال القائمة، التي تركتنا متفرجين على إبادة جماعية عاجزين، نلاحق أخبارها يوماً بعد يوم! إن كانت الأشكال الفنية التقليدية، أسيرة المتاحف، عاجزة عن جعلنا نتحرك لإيقاف إبادة جماعية، فما الجدوى منها سوى القيمة الجمالية والاستغراق في التأمل، وتحميل المتفرج ذنباً؟

كسر "سكينة" المتحف هو أقل ما يمكن القيام به. لن يوقف إحراق اللوحات الإبادة الجماعية، ولا حتى حرباً عاديّة، لكن تكفي زعزعة السكينة العامة، والقول إن العالم يجب ألا يستمر على ما يرام بينما ماكينة حرب تقتل وتحرق الأرض وتنفي كل احتمالات الحياة.

يشمل تعريف جريمة الإبادة الجماعية (أو جرائم الإبادة الجماعية)، من ارتكب الجريمة ومن علم بها ولم يتصرف، على اعتباره جزءاً منها. فكون كل هذه الدول الآن تعلم وتشهد على الإبادة، وكون مئات الملايين من سكان كوكب الأرض يعرفون ويتابعون هذه الإبادة من دون أن يتحركوا، فهل جميعنا شركاء في هذه المجزرة الغزية؟ تبقى مهاجمة المتحف عقيمة في حال لم تتم مهاجمة وتخريب وتعطيل سكينة المؤسسات السياسية والعسكريّة، والعمل من الداخل وتأريق العاملين بها من أجل التصرف، وقطع سلسلة الإنتاج وخطه، وعلى الأقل تأخير الموت ولو لدقائق، أو تعليق نقل السلاح لساعات، ساعات كافية كي ينجو أحد بحياته.

المساهمون