صحافيات الدنمارك: الذكوريّة والتمييز

02 ابريل 2021
في عالم المنافسة تدفع الدنماركيات ثمناً فادحاً (ناصر السهلي)
+ الخط -

على عكس الصورة النمطية، تنتشر في أنحاء مختلفة من الدنمارك ثقافة كراهية النساء والتحريض على الحركة النسوية. وتترجم هذه الكراهية بالتشجيع على العنف والتهديد بالاغتصاب والقتل الذي يلاحق الصحافيات والسياسيات والعاملات في مجال حقوق المرأة.

مناسبة الحديث اليوم هو عودة نشاط مجتمع يسمى "مين نشوفينيزما" أو غلاة الذكورية، رغم أن كوبنهاغن سارت بخطى ثابتة نحو المساواة وتثبيت حقوق المرأة خلال 100 عام الماضية. وفي هذا الإطار، تشير الصحافة الدنماركية، ومن بينها "إنفورماسيون" و"بوليتيكن"، إلى ظواهر خطرة تجري في كواليس أماكن العمل، ومن بينها الإعلام، وتمتد إلى التمييز وكراهية النساء والتسامح مع ثقافة الاغتصاب.

تحرش وتمييز
تحت عنوان "الدنمارك ليست فردوساً للنساء... أمر موثق"، تناولت بروفيسورة علوم الاجتماع ومستشارة التنوع الاستراتيجي، الدنماركية ماريا فلنتاين بيك، في عدد صحيفة "بوليتيكن"، الأحد الماضي، ما تتعرض له نساء بلدها من انتهاكات لحقوقهن وتحرش. مقالة بيك المطولة تأتي في سياق سجال دنماركي مستمرّ منذ صيف العام الماضي عن شيوع التحرش والاعتداءات الجنسية في المؤسسات الإعلامية المكتوبة والمرئية على حد سواء، وداخل صفوف أحزاب سياسية. وهو النقاش الذي أطاح مذيعين ومسؤولين في المؤسسات وبزعيم حزب "راديكال فينسترا" (يسار وسط) مورتن أوسترغورد، بعد الكشف عن "ملامسة غير لائقة" لزميلته في البرلمان من نفس الحزب، لوتا رود. 

وقدّمت بيك أرقاماً مرعبة: نحو 29 في المائة من الموظفات في "بوليتيكن" تعرّضنَ "لاهتمام جنسي غير مرغوب"، و26 في المائة عانين التمييز على أساس الجنس "على شكل تعليقات مهينة جنسياً أو اعتبارهنّ غير مؤهلات والتغاضي عن ترقيتهنّ".

29 % من موظفات "بوليتيكن" تعرضن لتحرش جنسي و26% عانين التمييز

وأشارت هذه الخبيرة الاجتماعية المرموقة إلى شيوع مشكلة حقيقية تعانيها نساء البلد الاسكندنافي، معتبرةً أن ذلك التمييز والتعليقات الجنسية غير المرغوبة في أماكن العمل، ربما تعود إلى "اعتبار الدنمارك فردوساً للنساء، وهذا غير صحيح بالمطلق وعكسه موثق، وما يزال بعضنا يقبل ذلك على أساس أننا بلد متقدم لناحية حقوق المرأة". وفندت الباحثة من خلال أبحاث متخصصة مقارنةً بـ37 من الدول. 

كانت كوبنهاغن احتفلت قبل نحو 6 أعوام بمئوية حقوق المرأة (1915)، لناحية المشاركة السياسية بالتصويت والترشح، وهو ما لم يكن متاحًا لها ولطبقات اجتماعية كثيرة، وفق دستور 1849 الذي عدل مرات كثيرة حتى 1953، لتتمكن المرأة من الوصول إلى منصب الملكة، وهو ما حصل مع الملكة مارغريتا الثانية في يناير/كانون الثاني عام 1972، بعد وفاة أبيها الملك فريدرك التاسع. ورغم هذه الحقوق التي يمكن ملاحظتها في ترؤس سيدتين للحكومة، ووصول نسبة السيدات في البرلمان إلى أكثر من 39 في المائة (من مجموع 179 برلمانيا، بحسب الموقع الرسمي للبرلمان)، إلا أن قضية المساواة في المناصب الإدارية العليا، وبروز فضائح تبعت انتشار حملة "مي تو"، يشعل هذه الأيام النقاش في كوبنهاغن.

كذلك فإنّ شهادات صحافيات من هيئة البث العام "دي آر" إلى الصحافة المكتوبة، أشارت على مدى الأشهر الماضية إلى "اغتصابات وانتهاكات جنسية كأثمان نجاح في الوظيفة". وهو ما فجرته الصحافية ومقدمة البرامج، صوفيا ليند التي صدمت المجتمع بما تعرضت له لإرضاء مديري العمل. والمثير في قضية صوفيا ليند أن اليمين المتطرف، ممثلاً برئيسة البرلمان عن حزب "الشعب الدنماركي" الشعبوي، بيا كيرسغورد، هاجمتها واعتبرتها "تشوه سمعة الدنمارك"، قبل أن تتقدم 1700 سيدة بأسمائهن الصريحة ليروين، من الوسط الإعلامي والثقافي، ما تعرضن أيضاً له. 

شهادات صحافيات من هيئة البث العام "دي آر" أشارت إلى "اغتصابات وانتهاكات جنسية كأثمان نجاح في الوظيفة"

تحدثت بيك كذلك عن "هرمية منافسة فاسدة في صناعة الإعلام، الخاضعة بشكل مستمر للتفاوض، سواء على الأجور أو على الترقيات". واعتبرت الباحثة أن "السمة المؤسفة للإنسان أن أخلاقه تفسد بتسلطه وقوته، فكلما وصل الإنسان إلى قمة السلطة كلما أصبح أقل تعاطفاً وأكثر جشعًا، نعم ومتحيز جنسياً، ما يجعل المسألة دوارة ويعتقد ضحاياها أنها تنطبق على الجميع، فيصبحون من دون وعي جزءا منها". 

بين الحاضر والسياق التاريخي
من جانبها، استعرضت "إنفورماسيون" نقداً ذاتيًا تاريخياً لانجرارها حتى ثمانينيات القرن الماضي إلى الترويج لبيع الجنس، من خلال إعلانات مدفوعة الأجر لمواخير كانت تنتشر في أشهر شوارع ممارسة البغاء، إيسترغاده، وسط كوبنهاغن. واستغربت كيف ساهمت مع غيرها من الصحافة في ترسيخ استغلال سيدات وقعن في ضحايا الإدمان وعصابات الاستعباد الجنسي، المستمر حتى اليوم بواجهات أخرى وفي مناطق غير ذلك الشارع الذي تحول إلى احتضان أرقى المتاجر المتخصصة في تصاميم الأثاث الدنماركية.

ولاحظت "بوليتيكن" في تغطيتها المستمرة حول الموضوع المتعلق بالنساء الدنماركيات، من البرلمان إلى الشارع، كيف أن "السيكسيزم" (التمييز على أساس الجنس) باتت ثقافة "يمارس من خلالها الرجال الدنماركيون (وحول العالم) معاداة النسوية والسخرية منها ومن تعرض النساء للعنف وللاغتصاب، حيث يعتقد متخصصون في الثقافة الرقمية أن الأمر يجب أن يؤخذ على محمل الجد، بعد أن وصل إلى استخدام (فيسبوك) كمنصة السلوك الضار ولاحتضان خطاب الكراهية". 

التمييز على أساس الجنس بات ثقافة يمارس من خلالها الرجال الدنماركيون معاداة النسوية والسخرية منها ومن تعرض النساء للعنف وللاغتصاب

ما تذكره الصحيفة الدنماركية ليس جديداً. إذ يمكن لأي متابع لمنصات الحوار الدنماركية ملاحظة عدوانية التعليقات التي تطاول النساء، بأوصاف قذرة جنسياً ومهينة إنسانياً، بل ومهددة بشكل مبطن. فليس بغريب أن تذهب شجاعة قيادية في المجموعة البرلمانية لحزب "اللائحة الموحدة" بيرنيلا سكيبر إلى الاعتراف بتلقيها رسائل تهديد خاصة بالقتل، وفي إحداها بالاغتصاب ثم القتل إذا لم تخرس ولا تتحدث بالسياسة، رغم أنها منتخبة. 

فثقافة "اصمتي أيتها المرأة"، وهو عنوان وثائقي عرضه التلفزيون الرسمي الدنماركي قبل عامين يشرح جنوح المجتمع الذكوري الدنماركي نحو تهديد النساء المشاركات بآرائهن في الفضاء العام. الآثار النفسية، والخوف، دفع ببعضهن بالفعل إلى الصمت والانسحاب. هذا إلى جانب انتقادات استمرت منذ 2019 وحتى 2020 لسلك الشرطة التي كانت تتعامل مع شكاوى المغتصبات بـ"استهزاء وتعليقات جنسية"، ما جعل بعضهن يتردد في الشكوى، وهو ما أثار سجالاً اضطر قيادة الشرطة إلى الاعتذار والبدء بأخذ الشكاوى بشكل جدي واعتبار الأمر خطيراً. ودفع ذلك النقاش حول الاغتصاب إلى تبني البرلمان الدنماركي خلال الأشهر الماضية لقانون يجرم الفعل الجنسي إذا لم يكن بتراض بين الطرفين، بما في ذلك الأزواج.

 
الفضاء السيبراني
تضم منصة "فيسبوك" مجموعات مغلقة خاصة بالرجال المعادين للنساء والنسوية. وسجلت الصحافة المحلية انتشار صفحة تضم نحو 10 آلاف عضو، اعتبرتها "تحرض على العنف ضد النساء وتستهزئ بقانون الاغتصاب ومن جريمته". وجدت "فيسبوك" نفسها منذ الجمعة الماضية وسط عاصفة إعلامية لفسحها المجال، إلى جانب "تويتر"، لنشر خطاب الكراهية، بحق النساء والأقليات الجنسية والإثنية بالعموم. 

ووعدت "فيسبوك" بالتدخل الفوري لفرض سياساتها الرافضة لنشر خطاب الكراهية التي تطاول السياسيات وزعيمات أحزاب ورئيسة الوزراء ميتا فريدركسن. وهو ما اضطر صفحتها الرسمية لشطب صورة من زيارتها لإحدى المدارس بعد اكتشاف أن 3 من المراهقين الجالسين خلفها رفعوا بشكل جانبي إصبعهم الأوسط لها، وأحد هؤلاء المراهقين على الأقل يبدي تعاطفاً مع حركة "رجال في اللباس الأسود" المناهضة للإجراءات الحكومية لمنع تفشي  فيروس كورونا

تضم منصة "فيسبوك" مجموعات مغلقة خاصة بالرجال المعادين للنساء والنسوية إحداها تضم 10 آلاف شخص

وفي كل الأحوال، ورغم وعود "فيسبوك" بالتدخل، إلا أن الظاهرة أعمق بكثير من مجرد إجراء هنا أو هناك. فبحسب المنظمة غير الحكومية Everyday Sexism Project Denmark تنتشر الكراهية كثقافة تطاول النساء والنسوية بشكل غير مسبوق. وربطت المنظمة مخاوفها من اتساع الظاهرة وعمقها على المستوى السيبراني ومقتل البريطانية سارة إيفرارد وانتشار العنف بحق النساء. 

واستحضرت المنظمة التي تراقب ما يجري من نقاشات محرضة على النساء والصحافيات كيف يغلف هؤلاء كلماتهم من مثل "اللعنة على النسويات (وشتائم وتحريض أخرى بحق النساء) باعتبارها "دعابة ومزاح". وتسجل المنظمة أن الظاهرة تنتشر من البيئة السيبرانية إلى ورش وأماكن العمل، ليصبح لمجتمعات الكراهية وجود وشرعنة في يوميات البلد، بحسب ما صرحت من المنظمة لـ"بوليتيكن" مايا كالكا لورينتزن. واعتبرت لورينتزن أن ما يجري "جزء مما نسميه ثقافة الاغتصاب، حيث يعتقد الناس أن الاغتصاب موضوع مقبول للمزاح، وأنه يساعد على التقليل من العنف الفعلي واغتصاب النساء" (وهو في الحقيقة العكس). 

ولعله من المثير أن يكون "المزاح" أو "الكوميديا السوداء"، كما تسمى في الدنمارك، والتي تتناول بشكل عنصري وتحيزي أقليات من أصول مهاجرة، ظلت لسنوات مبررة على ألسنة الساسة، وآخرها تصريح مثير للجدل لوزير عدل البلد، نيك هيكروب، الذي اعتبر بما معناه أن "قليلاً من التعبير العنصري يمنع العنف"، تماماً مثلما أشارت لورينتزن عن اعتبار البعض أن المزاح في قضايا الاغتصاب يقلل منه.

المساهمون