على الرغم من اقتران القدود الحلبية باسم المطرب السوري صباح فخري الذي توفي اليوم، إلا أن أغانيه لا تنتمي كلها إلى هذا النمط، بل إن كثيراً لم يُصَغ بأسلوب القدود الذي تُركب فيه الكلمات على الألحان الفلكلورية القادمة من التراث الموسيقي الإسلامي بأسلوب يحافظ على جمالية الفنون الإسلامية الموسيقية ويجردها من أبعادها الدينية وثقلها، إذ لحن 29 أغنية من بين أغانيه بنفسه، ناهيك عن الأغاني التي قدمها من ألحان الشيخ سيد درويش وعمر البطش ومحمد عثمان وكامل الخلعي وزكريا أحمد ومجدي العقيلي وغالب طيفور وسري الطنبورجي وبكري الكردي ومحمد المنجي الحلبي.
أغاني القدود الحلبية التي تميز صباح فخري بأدائها، وكان لها فضل بالشهرة واسعة النطاق التي حظي بها، انحصر الجهد في صناعتها على صياغة كلمات على قد أو مقاس الكلمات في الأناشيد الإسلامية الأصلية، بمعنى أن هذه الأغاني لا دور للملحن فيها. لذلك، لم يقف عندها صباح فخري الذي يتجاوز هاجسه الإبداعي المساحات الضيقة التي تتيحها القدود لمؤديها، ليبدأ رحلته بابتكار لحنه الخاص الذي حافظ فيه على روح الأصالة، من دون اللجوء إلى التكرار ومن دون الخضوع لقيود القدود التي حاصرت فناني حلب بسبب شعبيتها.
"جرحي خزن" كان أول لحن لصباح فخري، وبدا فيه متأثراً بالأنماط الموسيقية الأصيلة الأخرى في المنطقة، ولا سيما المواويل الشامية والعراقية. في لحنه الأول، بدا فخري ميالاً إلى إيجاد الفراغات والوقفات الصامتة القصيرة التي لا تهيئها أغاني القدود، لتساعد هذه البنية على إظهار قدراته الصوتية الخاصة، عندما يخفت الإيقاع. لكن هاجس الحفاظ على الأصالة كان طاغياً في تلك المرحلة، ليعتمد صباح فخري على كلمات فلكلورية يقدمها بألحانه الجديدة، ويزين المشهد الموسيقي بالعزف المنفرد على آلة القانون مبني بوزن معقد، على غرار الموشحات الأندلسية التي كان لها حصة كبيرة أيضاً في ما قدمه صباح فخري. هكذا، كان لحن صباح فخري الأول، أشبه بموال شامي مزين بنثرات لحنية مستوحاة من الموشح الأندلسي "املالي الأقداح" الذي أبدع صباح فخري بأدائه أيضاً لكنه كان أشبه بلوحة ناقصة تحتاج إلى المزيد من التفاصيل التي تغنيها.
التفاصيل الناقصة في لوحة صباح فخري الموسيقية، بدأ يعثر عليها مع أغنيته الأيقونية "خمرة الحب" التي استحضر كلماتها من التراث أيضاً. ففيها، عرف كيف يستفيد من خواص المواويل الشامية والعراقية ومن حركية القدود الحلبية والمقامات المتعددة والمرتجلة في الموشحات الأندلسية. هذه البنية، أعطت الأغنية ديناميكية غريبة، مكنت صباح فخري من أدائها بارتجالية تنجم عنها العديد من الأوجه، وتتلون حسب أجواء الحفلات وتفاعل الجمهور، وهي الخواص التي جعلت الرجل يدخل موسوعة غينيس عام 1968، بعدما واصل الغناء لأكثر من عشر ساعات على المسرح في العاصمة الفنزويلية كاراكاس.
هذا الأسلوب الخاص بالتلحين الذي بدأ يتبلور مع أغاني مثل "اترع الكأس" التي عاد فيها إلى قصائد بدر الدين حامد، سيثير الإعجاب في أي زمان ومكان، بسبب ما يُلحقه في النفس من مشاعر متضاربة، حيث تشعر لوهلة أن اللحن يثير المشاعر الوجدانية العاطفية، لكنه يثير أيضاً الحماسة، كما تفعل المارشات العسكرية والأغاني الوطنية.