صالح بكري وعلي سليمان لبنانياً: أداء حِرفي لشخصيات تعكس وقائع وخيبات

19 أكتوبر 2022
علي سليمان ويمنى مروان في "النهر" لغسان سلهب: جمالية أداء (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

مشاركة ممثّلَين فلسطينيَّين في 3 أفلام لبنانية، معروضة في مهرجانات وصالات تجارية بدءاً من عام 2021، دعوة إلى قراءة نقدية، لعلّها تُتيح نقاشاً وحواراً. المشاركة نفسها دافعٌ إلى إعادة اكتشاف مهارة أدائية، وجمال تمثيل. والكتابة، حينها، تمرينٌ على مزيدٍ من محاولة فهم أسس أدائية، في أفلامٍ تتفاوت مستوياتها الفنية والتقنية والدرامية والجمالية، لكنّ المشترك بينها بحثٌ في أحوال أفراد واجتماع وذاكرة وعلاقات ومشاعر.

علي سليمان، المُشارك في "طريق الريح" (2022) لتيرينس ماليك، يمنح الصورة السينمائية شيئاً مهمّاً من جمالياتها، ويضع الشخصية التي يؤدّيها في الخط الرفيع، الفاصل بين الحياة والمهنة، مُدخلاً إحداهما في الأخرى، لجعل هذه الشخصية أو تلك كائناً بشرياً، يمتلك ميزاتٍ وخيبات وسلبيات. فيلمه اللبناني، "النهر" (2021) لغسان سلهب، إضافة يمنحها النصُّ للممثّل، بما في النصّ من مساحات مفتوحة على تساؤلات، متأتية من معنى المصالحة مع الذات والاغتسال من ماضٍ (وراهنٍ، ربما)، ومن سعي إلى إعادة تركيب المُفكَّك في علاقة وسيرة وانفعالات؛ كما يمنحها الممثلُ للنصّ، ولصانعه السينمائي، بما لديه من حِرفيّة واتقان وجمال حضور.

لصالح بكري فيلمان لبنانيان: "كوستا برافا" (2021) لمونية عقل، و"بيروت هولدم" (2022) لميشال كمّون. الأول مرتبطٌ بأزمة لبنانية، بيئية واجتماعية وحياتية (أزمة النفايات)، مستمرّة منذ سنين، من دون رغبة رسمية وخاصّة في تنفيذ حلّ دائم لها، لأغراض سياسية واقتصادية ومالية؛ والثاني يجمع بعض الماضي بكثيرٍ من الراهن، في مدينة مُشرفة على انفجار داخلي، في ذاتٍ وأحاسيس وتحوّلات وانكسارات وأوجاع.

فيهما، يصنع بكري الشخصيةَ على صورة واقعٍ ومثاله. الشخصية تأخذ منه أجمل ما في طاقة الأداء، فيُخضِعُ الممثلُ نفسَه للشخصية، مُخرجاً منه أدوات واقعيّتها، حركة وشعوراً وتفكيراً ونطقاً (اتقان لافت للانتباه في نطق لهجة لبنانية واضحة)، وآخذاً منها مُفيداً أو أكثر، له وللمهنة والحِرفية. هذا غير معني بالقيم المختلفة لكلّ فيلم. النقاش النقدي غير متمكّن من عدم المقارنة بين الفيلمين، سينمائياً وإنسانياً وتفكيراً واشتغالات؛ لكنّه قادرٌ على معاينة تمثيلٍ يتوافق والبنى المتعدّدة لكلّ شخصية، من دون إغفال أنّ تمثيلَ آخرين وأخريات غير متناقض كثيراً مع براعة صالح بكري في اشتغاله.

في "كوستا برافا"، رغم ملاحظات سلبية على ما فيه من وهنِ وارتباك وإطالة أقرب إلى الثرثرة البصرية، تبرز نادين لبكي مثلاً في دور أمّ/زوجة/امرأة، تحاول إيجاد توزانٍ بين الجميع أولاً، وبين الجميع وبينها ثانياً، والأهم: محاولة إيجاد توازن في ذاتها. لبكي، في هذا، تبدو كأنّها مُدركة تماماً كيفية تحويل جمال واضح فيها إلى لغة تنفع الأداء، وتكون تواصلاً بين ماضي الشخصية وراهنها، والتناقضات بين الماضي والراهن كثيرة ومُتعِبة.

مع كمّون، يكشف صالح بكري أثقالاً تُرهِق زياد، وتجعل عودته إلى مدينته (بعد أعوامٍ يمضيها في السجن) رهاناً قاسياً، إذْ تكاد تُقفَل أبواب الخلاص كلّها أمامه. هذا لن يكون اختزالاً لفيلمٍ، مفتوحٍ على تساؤلات جمّة، بعضها مرتبط بالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، المنتهية قبل أعوام طويلة على زمن أحداث الفيلم، بل بأشباحها، فلكلّ فردٍ حربه الأهلية، لأنّها ستكون مع ذاته ومع أقارب له وأحبّة ومُقرّبين. الرغبة في الخلاص، إنْ يكن الخلاص اغتسالاً أو مصالحة أو تسوية، دافعٌ لزياد إلى "ركضٍ" متواصل، بمعناه المباشر، أو برمزيّته المستمرّة منذ "ظلال" (1995)، فيلم قصير لكمّون، وتبيانه بحدّة أكبر في "فلافل" (2006)، أول روائيّ له قبل "بيروت هولدم"، ثم في "قلب أحمر كبير"، روائي قصير في سلسلة "في الحب والحياة" (2022، فكرة عزة شلبي، إنتاج مشترك بين "نتفليكس" و"شركة اتحاد الفنانين للسينما والفيديو")، التي تضمّ 8 أفلام.

 

 

الركض غير مباشر في يوميات زياد. فصالح بكري يمنح ركض زياد متنفّساً يمتلك شكلاً آخر من التعبير عما يعنيه الركض فعلياً: ملامح وجه، وحركة جسد ويدين، وابتسامات قليلة وملتبسة، وسلوك يتنازعه ميلان اثنين بين جدّية الرغبة في الخلاص وعبثية واقع ومحيط ومدينة. هناك أيضاً نظرات وانفعالات، وبعض الانفعالات مُبطّن وقاسٍ. في هذا كلّه، يُتيح بكري لمُشاهِد زياد، في سيرته وعالمه وعلاقاته ويومياته، منافذ تُدخله إلى جوف الجحيم الذي يعيشه، فيشعر المُشاهِد بلهيب النار التي تأكل روحه.

أفلامٌ عربية وغربيّة عدّة يمثّل فيها علي سليمان وصالح بكري. بعضها قديمٌ، وبعضها الآخر حديث الإنتاج. إنْ يكن سليمان ممثلاً في فيلم أخير لماليك، فلبكري دورٌ أساسي في "أزرق القفطان" (2022) للمغربية مريم توزاني، المعروض للمرة الأولى دولياً في "نظرة ما"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كان" السينمائي. عام 2013 مثلاً، يظهر بكري في "سالفو"، للإيطاليين فابيو غراسّادونيا وأنتونيو بياتزا، مؤدّياً فيه دور قاتل مأجور يعمل لحساب إحدى العائلات المافياوية في باليرمو (صقلية). هوليوودياً، يُشارك سليمان في "المملكة" (2007) لبيتر بيرغ، في دور ثانوي، مع الفلسطيني أشرف برهوم، أحد الضباط السعوديين المُكلّفين بمرافقة 4 عناصر أمنية أميركية، يُحقّقون في الرياض في تفجير مبنى سكني ضخم للأميركيين. كما يظهر، عام 2008، في Body Of Lies لريدلي سكوت.

الفيلمان الهوليووديان لبيرغ وسكوت، رغم امتلائهما بتقنيات التشويق الأمني/العسكري/الاستخباراتي، ينتقدان، بطريقتين تختلف إحداهما عن الأخرى، شيئاً كثيراً من عمل أجهزة الأمن والمصالح السياسية والصراعات الحاصلة مع أطرافٍ إرهابية، غير متناقضة كثيراً مع الإدارة الأميركية وأجهزتها. الفيلم الإيطالي يُتيح مساحة أوسع لبكري، ما يُحمّله مسؤولية تمثيلية أكبر وأعمق، لما في القاتل المأجور من تناقضات، أيضاً، بين مشاعر ومهنة وتفاصيل مختلفة.

الأفلام اللبنانية الثلاثة، المُنتجة حديثاً، تُشكّل فرصة جديدة ومُحبَّبة، لتمتّع مطلوب بأداء تمثيلي، يبدو كأنّه يتفوّق على نفسه، أحياناً، في مقاربة 3 شخصيات، في أزمنة مختلفة، وفي أمزجة وانكسارات وخيبات ورغبات في خلاصٍ منشود. أداء يقول إنّ حِرفية المهنة، مع ما فيها من وعي معرفي واختبارات دائمة واشتغالات كثيرة، سببٌ دائم لاختيارات تمثيلية، تتوافق مع أدوار وشخصيات ومناخ ونصوص وعلاقات وحالات، يشتغلها مخرجون/مخرجات في مقاربات سينمائية عدّة.

المساهمون