شينيد أوكونور... حتى يختفي صوتها في الهواء

30 يوليو 2023
قدمت أوكونور نُسختها من الأغنية عام 1991 (ميشيل لينسن/Getty)
+ الخط -

قليلة هي الأغاني التي ضاهت بشهرتها رائعة إلتون جون Sacrifice من ألبومه Sleeping With The Past الصادر عام 1989. ما زاد من شهرتها هو ظهورها ضمن موسيقى فيلم التحريك الشهير Lion King عام 1994. مع أن الأغنية التي كتب كلماتها بيرني تاوبن لم تحقق نجاحاً في الولايات المتحدة، إلا أنها حظيت باحتفاءٍ على مستوى العالم، لتُصبح من الأيقونات الموسيقية المتأخرة لتلك الفترة.

ساهمت هذه الأغنية في بلورة أسلوب العقد الأخير من القرن العشرين، من خلال مؤثرات الأصوات التركيبية (Synthesizer)، والإيقاعات الخفيفة الملطّفة لأجواء الـ"بالاد" الشاعرية. لذا بات من العسير أن يُعاد تقديمها، وإن تعددت المحاولات، من قبل أي فنان آخر غير إلتون جون، تحت طائلة المجازفة بسلبها الألق الذي ظلت تتمتع به إلى اليوم. فالأغنية مُكتملة لجهة الكتابة والمعالجة والأداء. علاوة على تطابقها التام مع شخصية إلتون جون الفنية والمرحلة التي أزهرت فيها نجوميته. وهو ما جعل من أي محاولة لإعادة تقديم أو صياغة تخضع لها الأغنية، خصوصاً في سياق زمني مختلف، عاجزة عن إعطاء قيمة مضافة، تزيد عليها بدلاً من أن تنقص منها.

لعل شينيد أوكونور (1966 ــ 2023) وحدها من نجحت حقاً، ليس في إعادة تقديم رائعة جون وحسب، وإنما في إعادة خلق الأغنية ووضعها في سياق حقبوي مغاير، ليُلهِم أجيالاً قادمة من الفنانين أسلوباً تعبيرياً جديداً. قدمت أوكونور نُسختها من الأغنية عام 1991، وذلك ضمن ألبوم Two Rooms التكريمي لمسيرة كل من إلتون جون وشريكه بيرني تاوبن.

لئن مثلت تلك الفترة انعطافة زمنية نحو حقبة فنية جديدة، فقد شاعت فيها الإصدارات الموسيقية التي كرم بها فنانو التسعينيات فناني العقود التي سبقت، من خلال إعادة تقديم عدد من أغانيهم، مثل ألبوم Hot Red+ Blue التكريمي لكول بورتر سنة 1990، وألبوم I'm Your Fan الذي صدر عام 1991 تكريماً لليونارد كوهين.

من خلال إعادة صياغتها رائعة جون، استحوذت أوكونور كُليّاً على الأغنية، كما لو أنها كتبتها ولحنتها بنفسها لكي تُغنّيها هي. هكذا، تتناهى Sacrifice كما لو أنها انبثقت للتو من حنجرتها، من دون أن يؤدي ذلك إلى انقطاع النسب مع الأصل. ذاك أن استحواذ أوكونور فعلٌ إبداعي خالص، ناتج عن انفعال صادق عميق بنص الأغنية ولحنها، لموهبة قادرة على إعادة تشكيل مكوّناتها، بغية إحداث قراءة جديدة، تُفضي إلى ابتكار وسائل تعبيرية جديدة.

من دون إيقاع نافر، تبدأ النسخة "الأوكونورية" بسلاسل هارمونية تُعزف على آلة الهارْب الكلتية، وهي قيثارة قديمة عزفت عليها الشعوب القاطنة لشمال غرب القارة الأوروبية، بما فيها الجزر البريطانية، واشتهرت بها أغاني شينيد أكونور، الأيرلندية المنشأ. المقطع الأول من الأغنية يصدر عن شفاه تهمس بصوت يرتجف، يكاد معه لا يُفهم ما يصدر من كلام.

عند نهايات المفردات ذات الحروف الصوتية المطلقة يغيب صوت أوكونور نهائياً في الهواء، ليبقى منه حفيفٌ كما لو أن الغناء قد صار نوعاً من المؤثرات الصوتية الإلكترو ــ أكوستية. بينما تُسخّن الخلفية الموسيقية على نارٍ هادئة، من خلال مدّها بخلفية هارمونية يُصدرها الأورغ الكهربائي، فيُحدث التصاق شفتيها بالميكروفون بين الفينة والأخرى صدمات صوتية عفوية تُسمع عند مخارج الحروف الكتيمة، لتترك في غنائها بؤراً للتوتر والقلق. بدورها، تُبدي أوكونور قدرة فريدة من نوعها على رفع مستوى الصوت ثم خفضه بصورة آنية، ليزيد ذلك من حجم التوتر الشعوري، من دون أن يمسّ ذلك بالطابع الأثيري العام لأدائها التعبيري. إلا أن الحنجرة عند نقطة معينة من المسار التصعيدي للأغنية، ستبدأ بالانقباض، فيشتد الصوت ليقترب من مستويات مرتفعة، حادة وجارحة، وإن أعقبته مرّات إنكفاءات مباغتة تعود به إلى مناسيب البوح الهش المنكسر، الهامس المختنق.

ذروة التصعيد تبلغها أوكونور عند المقطع الرئيسي المتكرر، أي الكورس، إذ سيُضاف إلى صوتها المنفرد طبقات سُجّلت بصوتها أيضاً لكن على حدة، مفارِقة نغمياً إلا أنها موائمة هارمونياً، تتناهى معاً كما لو أن ثمة جوقة تغني "الكورس". أما سحر الأغنية، فلن يقع إلا عند الختام بالمقطع الأخير، حيث تُكرر أوكونور عبارة: "لقد وهبت قلبي" كناية عن كون القلب قربان الحب. هنا، ينكفئ صوت أوكونور عوداً إلى مناسيب البوح الهش والهامس، مع بقائه محافظاً على تعدد الطبقات المتوافقة هارمونياً والمضافة اصطناعياً داخل استوديو التسجيل. غير أن التركيب لن يضطلع بعد الآن بدور الجوقة التي تزيد من ارتفاع الصوت ومن سعته الدرامية، بقدر ما سوف يُعيد تشكيل الصوت الواحد، مانحاً إياه ثراءً لونياً خاصاً، كما لو جرى تركيبه إلكترونياً، ليبقى صوت أوكونور وحيداً، يخفت تدريجياً حتى يغيب تماماً في الهواء.

المساهمون