رغم كثرة السجون السياسية العربية، تندر الأفلام العربية عنها، فالسلطات قامعة، تحول دون إنجاز سينمائي متكامل، فنياً ودرامياً وجمالياً وتقنياً، يتناول أحوال تلك السجون، من دون مواربة تتقصّد، إنْ تحضر، عدم الوقوع في مواجهة مباشرة مع تلك السلطات. الأدب العربي يُنتج روايات ونصوصاً في هذا المجال أكثر ممّا تنتجه السينما العربية، مع أنّ عدد الكتب العربية لا يزال قليلاً، نسبة إلى كثرة السجون، وحجم العنف، قمعاً وتعذيباً وقتلاً واغتصاباً، المُمارَس فيها.
"شرف" (2022) للألماني المصري سمير نصر، المشارك في الدورة الـ3 (11 ـ 16 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان القدس للسينما العربية"، يُقارب المسألة بحيادية مطلقة، رغم نيّة واضحة في قولٍ مباشر، مفاده أنّ السجون العربية كلّها متشابهة في أجوائها وأحوالها، وسجنائها ويومياتهم. القول هذا يتمثّل باختيار ممثلين (هناك ممثلتان فقط، في دورين عابرين) من جنسيات عربية مختلفة (فلسطين ومصر ولبنان ودول مغاربيّة)، كلّ واحد منهم يتحدّث بلهجة بلده. تعاون عربي عربي كهذا مطلوبٌ بشدّة، لكنّ ترجمته السينمائية في "شرف" تُربِك المُشاهَدة، خاصة أنْ لا تحديدات تشير إلى مكانٍ معيّن، وزمنٍ معيّن، وهذا ربما يُقبَل، فالسجون العربية واحدة في كلّ شيءٍ، لكنّ خلل كتابة النص السينمائي وترجمته البصرية أقوى من أنْ يُشاهَد "شرف" بسوية سينمائية.
الخلل منسحبٌ أيضاً على أداء تمثيلي يغلب عليه افتعالٌ وتصنّع، ونَفَسٌ مسرحي ناقصٌ أحياناً، وخطابية ممجوجة في فقرة ختامية تحرّض على التمرّد والمواجهة والمطالبة بحقوق مسلوبة، بلغة استفزازية سينمائياً، لكونها تصلح خطاباً سياسياً أو بياناً نقابياً أو حزبياً، إذْ لا شيء سينمائياً فيها إطلاقاً. التقطيع تقليدي وشبه ثابت، يخلو من سلاسة بصرية وسردية، والتوليف (الألماني هانسيورغ فايسْبريش) يُكمل تقطيعاً كهذا، من دون منح السياق الدرامي جمالية القول البصري المرافق لكلامٍ تنطق به شخصيات عربية مختلفة، يصعب تقبّل لقائها في مكانٍ واحد (سينمائياً)، رغم أنّ نيّة سمير نصر، الواضحة تماماً، تقول بتشابه السجون العربية.
الصرخة الأخيرة، رغم أهميتها النصّية كونها موجّهة ضدّ القمع والفساد والنهب والعنف السلطوي، تمنع عن "شرف" سينمائيّته، مع أنّ الناطق بها ممثلٌ لبناني بارع في اشتغالاته، أداءً وحركة ونبرة وسلوكاً. ففادي أبي سمرا يؤدّي شخصية رمزي يعقوب، الطبيب الذي يؤلّف كتباً ويُسجن سياسياً، إذْ يبدو أنّ النيّة نفسها تحتاج إلى شخصية مسيحية تُسجن مع شخصيات مسلمة ومُلحدة ومتزمّتة دينياً، وهذا مسيء إلى البناء الدرامي، لسطحيّة الشمولية الباهتة.
البداية عادية للغاية: أشرف عبد العزيز سلمان، المعروف باسم شرف (الفلسطيني أحمد المنيراوي) واقفٌ أمام محقِّق تونسي يريد معرفة سبب قتله أجنبيّاً في منزله. "قليلٌ" من التعذيب كافٍ لبدء مسار يُفترض به أنْ يُصوّره (التعذيب) بأشكال مختلفة، أبرزها لعبة الأداء، والاشتغال على الملامح والحركة والنطق، من دون انفعالات مدّعية. البداية العادية تلك تُقيم حاجزاً يحول دون مُشاهدة سوية، فأداء المنيراوي غير محترف، ونطقه يميل إلى افتعال، أو أنّه محاولة فاشلة لمَسرحة ستكون ناقصة. نظراته غير متوافقة ونظرات سجين بتهمة القتل، سيوضع في سجنٍ واحد مع قتلة وسارقين ومعتدين، ومع سجناء رأي، ملتزمين دينياً أو ملحدين. إضافة إلى تفريق طبقي، فالذين يتمكّنون من الحصول على مأكل ومشرب ودخان وملابس (وربما مال أيضاً) من ذويهم وعائلاتهم، لهم رفاهية لا يحصل عليها غير المتمكّنين.
أحمد المنيراوي يؤدّي الدور الأساسي، وهذا مُرهِقٌ لعجزه عن تأدية دور سجين مُتّهم بالقتل. نبرة صوته مزعجة. تصرّفاته مُتعِبة. قلقه وارتباكاته وخوفه غير مُقنعة كلّها في عفويّة أداء ومصداقيته، يُفترض بهما أنْ تكونا جوهر التمثيل. فادي أبي سمرا مختلفٌ تماماً. حرفيته، مع عفوية ومصداقية أداء، تجعل العادي في شخصية رمزي يعقوب أكثر إقناعاً من شخصيات أخرى، قبل خطابيّته الساذجة والباهتة، التي يصرخ بها أبي سمرا، فيفقد الأداء الحرفي والعفوي والصدق في فخّ المباشِر والمسطّح والنضالي الحادّ، وهذا كلّه ينزع عن فيلم سمير نصر "براءة" النيّة الأصلية، غير الصالحة أبداً في صُنع السينما.
لا جديد يُقدّمه "شرف" عن سجونٍ عربيّة، يعرف كثيرون وكثيرات حكايات متنوّعة عن الحاصل فيها، وربما أكثر من المُقدَّم فيه. المقارنة بين الفيلم والرواية المأخوذ منها ("شرف" للمصري صنع الله إبراهيم، 1997) غير مجدية، ففي الرواية، رغم حرفية كاتبها ومكانته الأدبية والثقافية، ارتباكات سردٍ وإطالة جمل وفقرات ومشاهد: "هذه قصة خيالية، تقع أحداثها في عالمٍ من وحي الخيال، لنا أنْ نُسعد بأنّ الواقع أجمل وأكثر إشراقاً". جملة في مطلع الفيلم "تنسف" النيّة الطيبة في مقاربة حالة واقعية لا خيالية إطلاقاً، والسعادة التي يقول بها كاتب تلك الجملة مقتولة في أروقة السجون، المحسوسة مادياً، وغير المباشرة أيضاً.
أهميّة الرواية كامنة في كونها شهادة واقعية عن حياة وعلاقاتٍ وعيشٍ. أهمية الفيلم، رغم تلك الجملة القاتلة للفيلم ولفكرته وهدفه، ماثلة في تطرّقه إلى مسألة يندر حضورها في السينما العربية، وهذا يجب أنْ يُحرِّض على اشتغالات سينمائية عربية أكثر، تتناول السجون السياسية تحديداً، ويوميات "نزلائها"، بما في اليوميات من حاجات جسدية وجنسية وغيرها (وهذا يخشاه عربٌ كثيرون وكثيرات)، تلتقطها أفلامٌ غربيّة ببساطة ومن دون فذلكة وتصنّع.
فوز "شرف" بجائزة "التانيت البرونزي"، في الدورة الـ33 (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، دافعٌ إلى نقاشٍ في موضوعه، كما يفعل منبهرون ومنبهرات به حينها (وهذا حسنٌ ومطلوبٌ)، لكنّه غير مانعٍ نقاشاً في اشتغاله السينمائي الباهت. الموضوع مهمّ للغاية، وهذا صحيح. لكنّ المأزق أنّ تلك الأهمية مغيّبة في اشتغال سينمائي مزعج.