شخصيتان غائبتان سينمائياً: واقع يختفي في أفلامٍ

08 يناير 2024
كامل الباشا: فلسطيني في فيلمٍ لبناني عن حربٍ أهلية (دومينيك شارّيو/WireImage)
+ الخط -

منذ نكبة 1948، على الأقلّ، هناك اهتمامٌ لبناني بفلسطين، فرداً وقضية. التداخل بين لبنان وفلسطين تاريخي واجتماعي واقتصادي، قبل أنْ يُضاف إليه الثقافي ـ الفني والنضالي، سياسياً وعسكرياً وثقافياً وإعلامياً ـ صحافياً. لبنانيون ولبنانيات يحملون سلاحاً إلى جانب الفلسطيني، تحديداً ضد يمين لبناني مُتحالف مع إسرائيل، قبل فترة من تحالفِ اليمين نفسه مع نظام حافظ الأسد ضد "المقاومة الفلسطينية"، ولاحقاً يقع خلافٌ عميق بين الطرفين (اليمين اللبناني ونظام حافظ الأسد). هذه الـ"ضد" غير مكتفية بالمقاومة، فهناك نقمة، تتحوّل تدريجياً إلى كره ونفور وعنصرية، موجَّهة كلّها إلى الفرد الفلسطيني عامة، قبل أنْ تُصيب الفرد السوري أيضاً، تحديداً منذ اندلاع الحرب الأسدية (بشّار هذه المرّة) ضد السوري ـ السورية، إثر "ثورة 18 مارس" (2011).

كرهٌ ونفورٌ وعنصرية حاضرة كلّها ضد السوري ـ السورية قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 إبريل/ نيسان 1975) أيضاً، وإنْ بدرجة أخفّ، وأشكال عدّة، وهذا رغم التداخل التاريخي الحاصل بين لبنان وسورية أيضاً، في الاجتماع والاقتصاد والعلاقات والثقافة والفنون تحديداً.

 

اهتمامٌ غير مكتمل

اهتمامٌ شعبي بالفلسطيني ـ الفلسطينية أكبر وأعمق وأهمّ من كلّ "اهتمامٍ" آخر، إنْ يكن هناك اهتمام آخر أصلاً، والرسمي مؤقّت، أي لحظة التهجير القسري بدءاً من عشية إعلان "دولة إسرائيل" (14 مايو/ أيار 1948). فالاهتمام الرسمي نفسه يتلاشى، والمشهد دليلٌ غير محتاج البتّة إلى أي تفسير: مخيّمات تحتاج إلى تأهيل جذري لاستيفاء أبسط الشروط البشرية للعيش، باستثناء مخيّم ضبيه، الذي يُقيم فيه فلسطينيون وفلسطينيات مسيحيون؛ منع الفرد الفلسطيني من العمل في 72 وظيفة؛ الإقامات الممنوحة مزرية؛ الرفض، وبعضه شعبي في أوساط يمينية ـ مسيحية غالباً (كما في غيرها، وإنْ بمستويات مختلفة)، قاسٍ ونافر.

هذا كلّه يتحوّل إلى استسلامٍ رسمي لسطوة البندقية الفلسطينية، وأبرز تجلّيات الاستسلام متمثّلٌ بـ"اتفاق القاهرة" (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969)، الذي يُصبح سبباً إضافياً لزيادة التسلّح اليميني المسيحي، المؤدّي إلى اندلاع الحرب الأهلية، تلك التي ستنتهي، رسمياً فقط، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990.

بين خمسينيات القرن الـ20 ومنتصف سبعينياته، التي تُعتَبر "عصراً ذهبياً" لبيروت الكوزمُبوليتية (هذه المفردة، كما تعبير "بيروت الكوزمُبوليتية"، يحتاجان إلى تفكيك معمّق، لفهم مدى حقيقة أنْ تكون بيروت، حينها، كوزمُبوليتية، وكيف ولماذا)، تشهد العاصمة اللبنانية كثافة حضور ثقافي ـ فكري ـ فني (إلى أمور أخرى) بفضل المال الفلسطيني، الذي يُنشئ مراكز أبحاث، ومجلات فكرية وثقافية، ويموِّل إنتاج أفلامٍ، معظمها تسجيلي بحت، تصبّ غالبيتها الساحقة في القضية الفلسطينية، لبنانياً وفلسطينياً. أموالٌ تصنع سينما (وإنتاجاً ثقافياً ـ فنياً متنوّعاً أيضاً)، تؤكّد التزاماً لبنانياً بالقضية الفلسطينية، وتساهم في بلورة ركائز مطلوبة لصُنع سينما محلية، تستفيد من المال الفلسطيني لتطوير لغة، تستقلّ تدريجياً عن التجاري والنضاليّ، قبل اندلاع تلك الحرب، بسبب صدام مباشر بين مسلّحين كتائبيين (يمين مسيحي) ومدنيين فلسطينيين في عين الرمانة (منطقة ذات نفوذ يميني مسيحي)، بعد مناوشات مختلفة لأيامٍ سابقة مديدة.

 

 

التداخل بين لبنان وسورية، شعباً ومؤسّسات وعلاقات عائلية أساساً، قديمٌ بدوره، عبر زواج وأعمالٍ وزيارات غير مُتوقّفة رغم اندلاع تلك الحرب البائسة. رجال أعمال ومال ومصارف سوريون يؤدّون دوراً مهمّاً في "إنعاش" اقتصادٍ لبناني، أو جانبٍ منه على الأقلّ، من دون تناسي الدور الاقتصادي المصرفي الفلسطيني، المتواضع إجمالاً، لكنْ المهمّ أيضاً، مع "تجربة" يوسف بيدس (من أب فلسطيني وأمٍ لبنانية، 1912 ـ 1968) و"بنك إنترا" (1951 ـ 1966)، وحكايتهما مُتداولة بكثرة، خاصة الانقضاض اللبناني عليهما، ما سيؤدّي إلى إفلاس المصرف، إنقاذاً لسطوة مرجعيات لبنانية حاكمة.

أنْ يكون الفلسطيني، المسلّح أساساً، سبباً مباشراً لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، مسألة موثّقة ومعروفة، من دون أنْ يعني هذا تنصّلَ اليمين المسيحي من مسؤولية إشعال الحرب نفسها، وأطرافٍ لبنانية أخرى أيضاً، بتحريكٍ عربي ـ دولي، وإسرائيلي طبعاً. لكنْ، أنْ يكون الفلسطيني سبباً، يتطوّر إلى مشاركة فعلية في الحرب أعواماً عدّة (الخروج النهائي لـ"منظّمة التحرير الفلسطينية" من بيروت حاصلٌ بين 21 أغسطس/ آب و1 سبتمبر/ أيلول 1982، علماً أنّ بدايات حضورها متنوّع الأشكال في لبنان عائدة إلى عام 1969)، من دون أنْ تلتفت السينما اللبنانية إليه، تلك التي تتناول أفلامها (الروائية الطويلة تحديداً) الحرب نفسها، المُنجزة في أعوامها، أو في اللاحق على نهايتها المزعومة والهشّة، فهذا غير مفهومٍ. تماماً كغياب الفرد السوري، المسلّح تحديداً (جيش ومخابرات، وفصائل فلسطينية ولبنانية تابعة لنظام حافظ الأسد)، عن سينما لبنانية معنية بأعوام الحرب الأهلية، علماً أنّ للسوري المسلّح دوراً فيها (5 يونيو/ حزيران 1976 ـ 26 إبريل/ نيسان 2005)، يلحق بأدوار اجتماعية واقتصادية ـ مالية ـ تجارية، كما على المستوى البشري والثقافي والفني والإعلامي ـ الصحافي، المتداخل بشدّة وعمق في الحياة اللبنانية؛ هذا الغياب منسحبٌ أيضاً على السينما اللبنانية نفسها.

 

غياب غير مفهوم

هذا غير مفهوم. الاستثناء "السينمائي" ضئيلٌ للغاية (أقلّه إلى الآن)، لكنّه يتمثّل بفيلمين اثنين: "محبس" (2017) لصوفي بطرس، و"قضية رقم 23" (2017) لزياد دويري. في الأول، يحضر السوري شخصية أساسية، ترتبط ذكراه بالحرب الأهلية اللبنانية، عبر أفراد عائلة سورية، يريد ابنٌ لها زواجاً من فتاة منتمية إلى عائلة مسيحية لبنانية، أحد أفرادها مقتولٌ في معركة مع الجيش السوري. في الثاني، يحضر الفلسطيني شخصية أساسية أيضاً، يؤدّيها عاملٌ فلسطيني، يصطدم بمقاتل قواتي سابق، ما يفتح خزائن ماضٍ، غير منغلقة تماماً.

لا مباشرة ولا خطابيّة في تمثّل مسألة الحرب الأهلية في الفيلمين هذين، والمسألة والحرب تنكشفان تدريجياً في سياقاتٍ درامية، وذكريات شخصية. في "محبس"، هناك نَفَس كوميدي مُحبَّب، غير لاغٍ أهمية مضمونٍ يحاول بحثاً بصرياً متواضعاً في العلاقة، المرتبكة والمعقّدة وغير المحسومة، والمُحمّلة تساؤلات جمّة، بين أفرادٍ من لبنان وسورية، عبر شخصيتي شابين، سوري ولبنانية، يريد أحدهما الزواج بالآخر، حبّاً وقناعة ورغبة. في "قضية رقم 23"، يؤدّي خلافٌ بسيط بين ميكانيكي سيارات (مقاتل سابق في مليشيا يمينية مسيحية، عادل كرم) وعامل (فلسطيني، له تجربة مريرة مع حروب الإخوة العرب بين عمّان وبيروت، كامل الباشا) إلى فتح بعض الماضي، المُعلّقة أسئلته وملفاته، وفي هذا البعض كمٌّ من الارتباكات والنزاعات، والدم والعنف.

في حرب إسرائيلية جديدة على قطاع غزّة والضفة الغربية، بدءاً من عملية "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، يُستعاد الحضور، بل "اللاحضور" الفلسطيني في سينما لبنانية، تُعاين أفلامٌ عدّة منها تلك الحرب الأهلية اللبنانية، بأهوالها ومساراتها وجرائمها وتحوّلاتها، وإنْ باختلافٍ واضح في مدى التعاطي مع هذه التفاصيل بين فيلمٍ وآخر؛ علماً أنّ مجازر عدّة مرتكبة بحقّ فلسطينيين وفلسطينيات مدنيين في مخيّمات مختلفة، بأيدي عناصر مليشياوية لبنانية مختلفة ("القوات اللبنانية" المسيحية و"حركة أمل" الشيعية، تحديداً)، تبقى الأشهر بينها تلك الحاصلة في مخيّم شاتيلا وصبرا (16 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 1982).

التاريخ الحديث حافلٌ بعلاقات متينة من جهة، وبصدامات حادّة من جهة ثانية، وهذا بحسب كلّ طرف ـ طائفة ـ بيئة لبنانية. فبداية تلك الحرب شاهدة على نزاع بين يمين مسيحي لبناني وسلاح فلسطيني، معطوف على تحالفات مع طوائف إسلامية وحركة وطنية؛ ونهايتها (أو بالأحرى عشية نهايتها المزعومة والهشّة والناقصة) ترتكز على "تحالف"، مالي عسكري أولاً، بين اليمين نفسه (أو بعضه على الأقلّ) وسلاح ياسر عرفات وأمواله، خاصة مع اندلاع "حرب التحرير" (14 مارس/ آذار ـ 17 سبتمبر/ أيلول 1989) تحديداً، بين جزء من الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون والجيش السوري الأسديّ.

 

 

رغم هذا، تنفضّ السينما اللبنانية عن هذه التساؤلات كلّها، والأسباب ـ رغم عدم علانيّة إجابات عنها، وإجابات قليلة مُعلنة لكنّها غير نهائية - تكاد تُختَزل بخشية التورّط في مسألة حسّاسة كهذه، ما يضع المتورّط في مواجهة "رقابات لبنانية" متعدّدة الأشكال والجهات، تُصرّ على تأدية دور "المعلّم" (السلبي فعلياً)، الذي يُنهي ويُقرّ وفقاً لمصالح طائفية - مذهبية متحكّمة بمفاصل الحياة اللبنانية.

لكنّ الرقابات تلك لن تكون سبباً وحيداً. تردّد الإنتاج في تخصيص ميزانيات بأفلامٍ كهذه، وعدم وضوح رؤية سينمائية لتصوير واقعٍ فلسطيني في لبنان، وعدم تواصل مباشر، في طفولة مخرج - مخرجة ومراهقتهما في أعوامٍ عدّة من الحرب، بينهما وبين الفلسطيني، المدني والمسلّح، تحديداً؛ أسباب تحول دون إنجاز أفلامٍ روائية طويلة تتناول الحرب من دون تغييب الشخصية الفلسطينية.

الأسباب تلك واقعية ومتشابهة أيضاً في مسألة غياب الشخصية السورية عن تلك الأفلام، يُضاف إليها سبب آخر: احتلال الجيش السوري ومخابراته لبنان، قبل "خروجهما"، الملتبس والناقص، منه، بعد أسابيع على اغتيال رفيق الحريري، الرئيس السابق للحكومة اللبنانية (14 فبراير/شباط 2005).

 

قصتان وواقع

قصة تُروى، ولعلّ القصة نفسها مروية سابقاً: فيلم تخرّج طالبيّ (للأسف، أنسى عنوانه واسم مخرجه/ مخرجته)، يسرد حكاية مُراهقة لبنانية يغتصبها بائع كعك متجوّل في أحد شوارع بيروت. بعد اختياره لعرضٍ في مهرجان سينمائي محلي، يُقدَّم، بحسب المطلوب رسمياً، إلى "جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية" التابع لـ"المديرية العامة للأمن العام"، للحصول على إجازة عرض. الجواب: يُمنع عرضه. السبب: في الفيلم، اتّهام مبطّن للسوري باغتصاب الفتاة. كيف هذا؟ يُقال التالي: أليس بائع الكعك سورياً، كالحاصل في البلد؟

قصة أخرى: في "بيروت بالليل" (2011) لدانييل عربيد، يريد أحدهم خروجاً آمناً من البلد، إذْ لديه معلومات موثّقة في USB عن "اغتيال رفيق الحريري". لحظة سينمائية لا أكثر. جهاز الرقابة اللبنانية نفسه "ينقضّ" على بعض صانعي الفيلم، للمطالبة بهذا الـ USB، ولنوعٍ من تحقيق أمني استخباراتي يتعلّق بالاغتيال نفسه.

قصتان كهاتين كافيتان لتبيان حجم الخوف، الأمني ـ السياسي ـ الطائفي ـ المذهبي اللبناني، من تناولٍ سينمائي لمسائل، يعتبرها متحكّمون بالبلد وناسه حسّاسة وخطرة، من دون أي فصلٍ بين سينما، وإنْ تروي وقائع، والرواية سينمائية أصلاً، ووقائع ربما يُدركها كثيرون وكثيرات. فكيف يُمكن لسينمائي ـ سينمائية تناول شخصيتي الفلسطيني والسوري في أفلام حرب أهلية، تقول جهات حاكمة إنّها منتهية بملفاتها وأسئلتها المعلّقة، وللشخصيتين في الواقع أدوارٌ كثيرة في حرب وانشقاقات وعلاقات ومصالح وسطوة وتحكّم، إلخ؟

المساهمون