في الوصلة الإعلانيّة للدورة الـ27 (10 ـ 17 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، تتجوّل في أرجاء المدينة الشمالية، الملقَّبة بـ"الحمامة البيضاء"، مخلوقاتٌ غرائبيةُ، مُفعمة بألوان مبهجة، من إبداع الفنان التشكيلي عبد الكريم الوزّاني (أسماك طائرة، بجعات متدحرجة، كاميرات بأقدام طيور)، صنعت الهوية البصرية للمهرجان منذ أكثر من 3 عقود، عاكسةً تموقعه كبوتقةٍ حيوية ومتطلّبة لتفاعل جماليات سينمات "ماري نوستروم" (بحرُنا)، كما كان الرومان يسمّونها، بكلّ غناها وتنوّعها.
بصمات
دورةٌ حملت بصمة توجّهين، طَبَعا المهرجان برئاسة أحمد الحسني:
اختيارات فيلمية قوية، في المسابقتين الوثائقية والروائية، مع أفلام مهمة منتقاة خارج المسابقة، في إطار "البطاقة البيضاء"، الممنوحة لـ"الفيدرالية الدولية لصحافة النقد السينمائي (فيبريسي)"، كـ"ريش" لعمر الزهيري و"أسطورة الملك ـ سرطان البحر" لأليسيو ريغو دي ريكي وماتيو زوبيس، أو في فقرة "خفقة قلب"، كـ"زنقة كونتاكت" لإسماعيل العراقي و"ميديتيرانيو" لمارسيل بارّينا؛
وتوطيدُ ثقافة الاعتراف بسينمائيي الضفتين، من خلال 5 تكريمات لممثلين ومخرجين وفاعلين في المجال السينمائي، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات وندوات ذات مستوى وقيمة، للتفكير في أسئلة مُلحّة، تطرحها تحوّلات الممارسة السينمائية اليوم، بتأثيرٍ من التطوّرات الرقمية، ولامادية المُشاهدة.
في حفلة الافتتاح المُقامة في القاعة ـ التُحفة "تياترو إسبانيول"، كُرِّمت الممثلة البلجيكية ديبورا فرنسوا، التي بزغ نجمها حين أدّت دور أمّ شابة في "الطفل"، دراما الأخوين البلجيكيين لوك وجان ـ بيار داردن، الفائز بالسعفة الذهبية في الدورة الـ58 (11 ـ 22 مايو/أيار 2005) لمهرجان "كانّ" السينمائي، قبل أنْ تشقّ طريقها إلى الشهرة والجوائز، بأدوار متنوّعة، كالابنة المتمرّدة في "اليوم الأول من حياتي الباقية" (2008) لريمي بوزانسون، و"شعبيٌّ" (2012)، كوميديا ريجيس رونسار، مع رومان دوريس.
تذكار التكريم الثاني (عمل فنّي بديع للوزّاني) مُنح للممثل الإسباني ذي الأصل الألماني ألكس برندمول، الذي اشتهر بدور مجرم الحرب النازي الهارب جوزف مينغله، في "الطبيب الألماني" (2013) للوثيا بْوَنْثو، وحاز جوائز عدّة، منها "غاودي" السينما الكتالونية عن أفضل تمثيل، في "حياتا أندريس رابادان" (2008) لفنتورا دورال. أما التكريم الثالث، فللمخرج المغربي نور الدين لخماري.
أما "سينما أبينيدا"، بثيمتها الخضراء وزخارفها الصدفية الصفراء، فاحتضنت المسابقة الرسمية للأفلام الروائية (12 فيلماً)، التي امتازت بمستوى رفيع في مجملها، وخيط ناظمٍ يَعبُر طروحات غالبيتها، ويعكس رؤية ملهمَةً في الانتقاء والبرمجة، ويتجلّى في معركة نساءٍ يسعين إلى التخلّص من ضغوط اجتماعية خانقة يرزحن تحتها، كما في أول الأفلام المعروضة، وأكثرها انزياحاً: "التماعة برّية"، للإسبانية آينوا رودريغيز. فيلمٌ يُقدّم قصّة مغرقة في القتامة والغموض عن نساء في سنٍّ متقدّمةٍ، يعشن في بلدة قروية صغيرة، ويعانين اضطهاد نظرة مُحقّرة، في خلفية تعرّض البلدة بأكملها لتبعات العولمة والتنميط الكاثوليكي، اللذين يُهدّدان بمحو تقاليدها، وتقويض إيقاع عيشها.
تنجح رودريغز، في فيلمها الأول هذا، في إضفاء مناخ قلق، ينبعث من وضعيات تزاوج الواقعية مع نغمة سوريالية (حاضرة حتى في الملصق)، لا تخطئ في التذكير بلويس بونيول، وشغفه بتأثير الموروث الديني، والسخرية من تناقضات البورجوازية الصغيرة. كلّ ذلك من خلال نَفَسٍ متأثّر بالتوثيق، وسردٍ مبعثرٍ، وتشكيل لقطات خلاّقة من التماثلية، والتركيز على تأطير الشخصيات من الجانب أو الخلف. هذه مخرجة تنبغي متابعتها عن قرب في الأعوام المقبلة.
أفلام وقضايا
فيلمٌ آخر في غاية الجمال، خرج خالي الوفاض من المسابقة، ينبري لشخصية نسائية تتعرّض لضغط محيطها: "فيرا تحلم بالبحر"، للكوسوفية كالترينا كراسنيكي، يقدّم تآلفاً متكاملاً بين سردٍ سلسٍ وذكي، واشتغال فنّي فعال، ليلتقط مأزق مترجمة نشرات أخبار إلى لغة الإشارات، تنقلب حياتها رأساً على عقب بعد انتحار زوجها، وزعم أحد المقرّبين أنّ ملكية المنزل الأسري، في القرية، تعود إليه، بوصية من الفقيد.
يكمن تميّز إخراج كراسنيكي في التدرّج الآسر، والانقلابات غير المتوقّعة، التي يتنامى بها إلى علم فيرا بتورّط زوجها في القمار، ويصعد مخطّط عصابة الابتزاز إلى سطح الحكي، آخذاً الفيلم، كلّ مرّة، في منعرج مختلفٍ، يبدو على أثره كفيلم ثريلر محكوم بخطرٍ محدقٍ بحياة البطلة وسلامة أقاربها، أحياناً؛ وكفيلم سياسي، يوضح ميكانيزمات الترهيب والتواطؤ المخبوءة في المجتمعات المسكونة بماضي الحروب ومآسيها، أحياناً أخرى. اغتراب تلتقطه لقطات متواترة وآسرة بتجريديتها لفيرا، تغوص في بحرٍ لزجٍ بأمواجٍ متلاطمةٍ، كناية عن عزلتها.
البحر حاضرٌ كفضاء عزلة واغتراب في فيلمين آخرين، أحدهما لم تنصفه لائحة الجوائز:
"البحر أمامكم" للّبناني إيلي داغر، المُرتكز على اقتصادٍ في الحبكة، ومينيمالية في التناول، وأسلوب ممغنط للقبض على حالة الجمود والتداعي، التي تنسحب على بلدٍ بأسره، وتستشرف بشكل مذهل انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). كما تلتقط تحفة تامر السعيد، "آخر أيام المدينة"، أجواء القاهرة قبل "ثورة 25 يناير" (2011)، من خلال قصّة شاب يبحث عن شقّة؛ يقارب داغر ما قبل الكارثة التي أفاضت كأس الفساد المستشري في لبنان، عبر حكاية جنى، الباحثة عن فسحة ولو صغيرة لرؤية البحر من شرفة الشقة العائلية، كما في الأيام الخوالي، بعد عودتها من تجربة دراسة الفنّ في باريس، لتلفي نفسها عرضةً لمحيطٍ يحشر أنفه في اختيارات الفرد، ويحجر على إرادته. حتى خليلها، الذي يبدو للوهلة الأولى متفهّماً ومسانداً، لا يفتأ يفصح عن نبرة التشفّي، والخلط بين الرغبة في الاستقلالية والحقّ في الاختلاف، مع الغرور والتكبّر على الآخرين.
كما في "موج 98"، فيلمه القصير الحائز على "السعفة الذهبية" في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/أيار 2015) لمهرجان "كانّ"، يبرع داغر في تكثيف معاني الجمود والقلق الداخلي الجاثمة على نفس شخصيته الرئيسية، من خلال لقطات ثابتة، واشتغال استثنائي على الشريط الصوتي، الذي يُرافق غالباً مَشاهد قاتمة لبيروت ليلاً، يُصبح بموجبها حتّى رقص مرتادي العُلب الليلية باعثاً على ميلانخوليا وتوجّس دفينٍ من مستقبل قاتم.
الآخر، "جسدٌ ضئيل"، للإيطالية لورا ساماني: آغاتا، امرأة تضع مولودةً ميتةً في إيطاليا، بداية القرن الـ20، فتصطدم بالرفض القاطع للمؤسّسة الدينية، المسنودة بالعائلة، لرغبتها في تعميد المولودة، ومنحها اسماً، ودفنها وفق طقس شعائري. تستخرج آغاتا الجثة خلسةً عن الجميع، وتضعها في صندوق، وتمضي في رحلة دانتية المعالم، على تخوم الواقعية والميتافيزيقا، برفقة صبيٍّ غريب الأطوار يُدعى لانكس، يعيش بدوره العزلة والبحث عن هوية، نحو بحيرةٍ يقال إنّ الرضّع ـ الموتى يعودون فيها إلى الحياة، لمدّة تنهيدة كافيةٍ لتعميدهم، واستخلاص أرواحهم من سطوة المبهم. معجزة الفيلم أنّه يذهب إلى أقاصي الإيمان المطلق لآغاتا، التي أدّت دورها باقتدار سيليستي شيسكوتي، بأحقية معركتها، مستبدلاً الفضاء المادي بآخر رمزي، يتمثّل أولاً في نفق منجمي يعود إلى ظلمة الرحم، ويهدّد وفق المعتقدات السائدة بموت النساء من دون الرجال. تجتازه آغاتا بشجاعة، ما يحيل إلى طبقة معنى أخرى حول استرشاد الأنثى وإمساكها بزمام مصيرها، ضد تحكّم الـ"باترياركا" (المنظومة الأبوية).
ثمّ المشهد المهيب لانغماس آغاتا في البحيرة، الموحية بظلام المبهم أو "ليمبو" (المكان الذي تذهب إليه أرواح الموتى، الذين لم يُعمّدوا، في الاعتقاد المسيحي)، مُتلقّفةً الجسد الضئيل لرضيعتها من طيّ النسيان، بينما تنبعث روح هذه الأخيرة في العالم الفوقي، لتتلقّى اسماً مُفاجئاً، يصل النهاية بشكل فاضلٍ مع حوارٍ جرى في ظلمات النفق بين آغاتا ولانكس.
توّجت لجنة التحكيم، برئاسة المخرج والمنتج الفرنسي الإيفواري جاك ترابي، "جسدٌ ضئيل" بالجائزة الكبرى "تمودة"، وحصل أيضاً على جائزة لجنة النقد، برئاسة الناقدة المصرية أمل الجمل. بينما نال "صالون هدى"، للفلسطيني هاني أبو أسعد، جائزة لجنة التحكيم الخاصة، بعد إثارته جدلاً كبيراً بين المدافعين عن جرأة طرحه، المُركِّز على إبراز تناقضات المجتمع الفلسطيني، ومن اعتبروا تبئير المخرج على إشكالات الجانب الفلسطيني، من دون الموازنة بانتقاد الاحتلال الإسرائيلي، تزويراً لطبيعة الصراع، وحقّاً يراد به باطل، مع الإجماع على تحكّم المخرج في سرد الفيلم وإيقاعه، ودراماتورجيا الصراع، وتنويه خاص بخطّ جرى في خلفية السّرد، نشأت بموجبه علاقة حبّ غير متوقّعة، وبالغة الرهافة، بين المحقّق حسن وهدى، يفرّق بينهما كلّ شيء في الظاهر، لكنّ باطنهما متآلف على روحٍ واحدة.
إشكاليات وجماليات وتساؤلات
كما مُنح التونسي أنيس الأسود جائزة أفضل أول فيلم، عن "قدحة"، ونالت الرومانية لونل ليشتو جائزة أفضل ممثلة عن دورها في "قمر أزرق"، لألينا غريغوري.
في المسابقة الرسمية نفسها، شارك المغربي حسن بنجلون بآخر فيلم له، "حبيبة"، الذي خيّب الآمال، لكونه لم يتسامَ بوضعية أولية مثيرة للاهتمام، تحكي قصة حبيبة، الفتاة القروية التي هاجرت إلى المدينة للعمل في مصنع، فتجد نفسها فجأة مُجبرة على مغادرة الفندق، والبحث عن مأوى، بسبب تدابير الإغلاق المترتبة عن تفشي كورونا. تتّصل بأستاذها في معهد الموسيقى، الذي يوافق على إيوائها.
رغم فلتات كوميديا سوداء، موفّقة إلى حدّ ما، تجلّت خاصة في مشاهد تفاعل فراسة الأستاذ المكفوف مع مكر "المقدّم" (عبد الغني الصناك)، الذي يحشر نفسه في تفاصيل علاقة خاصّة، ظلّ حكي الفيلم يراوح مكانه، منشغلاً تارةً بمشاهد غريبة الأطوار (استحمام حبيبة بملابسها في حضور الأستاذ)، لا تفضي إلى شيء، ولا تدلّ على شيء، ومُتخبّطاً تارةً أخرى في مشاهد "فلاش باك"، أفضت إلى نهايةٍ مُفكّكة بفعل فجاجة الكتابة والدراماتورجيا والأداء، في مشاهد أريد لها أنْ تحقّق الوعي بآفة التديّن المنافق، ووقعه السيئ على مصير الفتيات الطموحات لمستقبل أفضل في الدراسة أو الفنّ، لكنها حفّزت على نقيض ذلك سخرية المُشاهدين وضحكهم.
من جهته، قدّم "أبو صدّام"، للمصرية نادين خان، محاولة مهمّة لاستشفاف الشخصية الذكورية العربية، من خلال "فيلم طريق"، وقوسِ تحوّلٍ مثير للشخصية الرئيسية، سائق شاحنة من الصنف الثقيل، يواجه مشاكل وتحدّيات، فيتضاءل أمام أعين المُشاهدين مثل بالون مملوء بالهواء، إذ ينتقل من وضعية الرجل المزهوّ بقوته وجبروته، إلى شخص بائس، لم تسقط خان في فخّ تصويره وحشاً، بل حرصت على التقاط هشاشةٍ، توضح أنّ الرجل نفسه أول ضحية لثقافة الذكورية المتسلّطة، من دون أنْ تغفل تقاطعاتها مع السلطة السياسية (مشهد الحاجز البوليسي) وتجلّياتها النفسية (مشهد الاستيهامات الجنسية)، مع الحرص على عدم حشر الرجال في قالب واحد (مشهد الخلاف مع عمّ الزوجة وأخيها أثناء العرس).
توفّق محمد ممدوح في تمثيل الدور ـ العنوان بأداء مُدهش، يوازن بين لحظات انفجارية وأخرى لا يحتاج فيها سوى إلى تحريك عينيه، ورفع إيقاع تنفّسه للتعبير عن الحنق أو الاختناق من الأفكار المختلفة عن تصوّره. أداء يستحق عليه جائزة أفضل ممثل، لولا أنّ اللجنة فضّلت عليه الممثل الفلسطيني أشرف برهوم في "الغريب"، للسوري أمير فخر الدين، لتأديته دور عدنان، الذي درس الطبّ في موسكو من دون أن ينال دبلومه، وعاد ليعيش في الجولان المحتلّ، بعيداً عن أسرته الصغيرة، وفي ظلّ خلاف عميق مع والده. يُسهم إدمانه على الكحول في وضعه في مواقف حرجة، يورّط فيها أصدقاءه، حين يتحدّى الجنود الإسرائليين، وتتطوّر (المواقف) إلى سعي إلى إيواء أحد الجنود الهاربين من الحرب في سورية.
يتّسم الإخراج بتشكيل لقطات بديعة، ويستغلّ جيداً مقوّمات الإطار المربّع (3/ 4) لالتقاط الاختناق من أجواء الحرب البعيدة ـ القريبة، ووطأة الاحتلال، بنَفَسٍ تاركوفسكيٍّ يُركّز على الطيور وجداول المياه والضباب الذي يلف أشجار التفاح، ويحجب زجاج السيارات. لكنّ بعض المَشاهد ـ المعتمدة على الحوارات للتعبير عن دوافع الشخصيات وسبر ماضيها، أو توضيح رهانات الحكي ـ أخلّت، نوعاً ما، بإيحائية الفيلم وطابعه الشاعري.
في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي، أسفرت مداولات لجنة التحكيم، برئاسة المخرجة الفرنسية ماريون ستانليس، عن فوز المخرجة المغربية أسماء المُدير بالجائزة الكبرى عن فيلمها "في زاوية أمي". ومُنحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى "نحن" لأليس ديوب، فيما تُوِّج الفيلم المغربي الآخر، المشارك في المسابقة نفسها، "صرّة الصيف"، لسالم بلال، بجائزة أفضل عمل أول.
ندوات وصُور فوتوغرافية
انعقدت في "مركز تطوان للفنّ الحديث" ندوتان، تندرجان في إطار سعي المهرجان إلى التفكير وطرح أسئلة حول قضايا ترهن مستقبل السينما. تمحورت الأولى حول موضوع "السينما في العصر الرقمي: وسائط، فن وخطاب نقدي"، انكبّ المشاركون فيها على تحليل انعكاسات التطوّرات التكنولوجية، كالرقمنة وتطوّر عادات المُشاهدة غير المادية على المنصّات، والإمكانات المهمّة التي يتيحها ذلك في مجال الإخراج، ليس فقط على مستوى تخفيف الأعباء المادية وتحرير الممثلين، بل كوسيلة لاستكشاف طاقات جديدة، وجماليات مبتكرة في تصوّر الأفلام وتصويرها واستغلالها.
كما تطرّق النقاد المشاركون إلى هامش الاستقلالية التي تتيحها وسائل النشر الجديدة على الإنترنت، من دون إغفال الهشاشة التي أضفاها انتشارها على النقد في الصحافة المكتوبة، واستقلاليتها عن مهن الترويج، وفي ظلّ انتشار أنماط الكتابة الجديدة على الإنترنت، التي تتّسم بغياب خطّ تحرير، وسيادة السطحية والتفاعل السريع المستجيب للفضائحية والإثارة السهلة، بدل الخطاب النقدي العميق، الذي ربما يتحوّل إلى تعبير هامشي على المدى الطويل.
الحلّ، في نظر المتدخلين، يكمن في طريق ثالثة، لا تتنازل عن مقوّمات الخطاب النقدي العميق، مع العمل على استثمار فرص الإنترنت، التي لم تُستَغلّ بعد، لخلق ترويج أكبر للنصوص النقدية الرصينة. فالنقد صورة للشروط المهنية التي يزاول فيها، وينبغي أخذ التطوّرات الجديدة، التي تهدّد بموت فكرة معينة حول السينما، بعين الاعتبار، من أجل توطيد تلقٍّ أكثر تبصّراً، عبر تبديل التصوّرات القائمة (باراديغم) حول الصورة، وإنشاء واحات مقاومة في الفضاء المتوحّش للإنترنت، المتمثّل في إلغاء قداسة الصور و"يوتوبية" النظرة.
الندوة الثانية بعنوان "التراث السينمائي في زمن الرقمنة بين الذاكرة والنسيان"، ارتكزت على أهمية حفظ التراث الفيلمي وحمايته من الاندثار، والرهانات الثقافية المهمّة المرتبطة بذلك. اتفق المشاركون فيها على أنّ همّ الحفاظ على التراث وتثمين الأرشيف مسألة مصيرية، أهمّ من أن تترك حكراً للسياسيين، لأنهم يهملونها غالباً، بل يحاربونها، لما لها من تأثير على تسجيل الحقيقة، التي تسعى الأنظمة السلطوية إلى طمسها. كما ينبغي تضافر جهود السينمائيين والقوى الحية للمجتمع المدني. وتمّ إبراز أن جمع الأرشيف ورقمنة التراث السينمائي والفيلمي، بشكل عام، ليس هدفاً بحدّ ذاته، بل يجب تفعيل تدابير لوضعه تحت إشارة المهتمّين والباحثين، لأن لا فرق بين أرشيف غير موجود وآخر ميّت، طيّ الرّفوف.
ذهبت التدخلات إلى ضرورة تفعيل شراكات شمال ـ جنوب لإيجاد موارد كافية لجمع الأرشيف وتخزينه، نظراً إلى الكلفة البالغة لهذه العملية، خاصة أنّ الشريط الفيلمي لا يزال، عكس المُعتَقَد، أكثر نجاعة وطول أمدٍ من الرقمي، رغم إمكانات الاستغلال والنسخ الأفضل لهذا الأخير. كما نوقشت مسألة، ما فتئت تُطرح في ظلّ انفجار كمية الأفلام ومنتجات الفيديو من مختلف الوسائط والأشكال، في الأعوام الأخيرة، تتعلّق بضرورة اختيار ما ينبغي حفظه، والمعايير التي ينبغي اتباعها في ذلك.
في فضاء "مركز تطوان" نفسه، نُظّم معرض صُوَر فوتوغرافية (تنسيق عبد الكريم الشيكر)، يُعدّ برهاناً مهمّاً على وعي مؤسّسة "مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، بأنّ جمع الأرشيف وتثمينه يقتضيان، إلى جانب النقاش الفكري في الندوات، جهوداً ميدانية وتدابير عملية. يتناول المعرض أوجهاً متنوّعة من تاريخ المهرجان وذاكرته في 4 عقود، مُسترجعاً خطواته الأولى في منتصف ثمانينيات القرن الـ20، ومُستذكراً لقاء جمهور تطوان مع أفلام مهمّة، ومخرجين كبار، أمثال يوسف شاهين وأنياس فاردا والجيلالي فرحاتي، وممثلين نجوم، ككلوديا كاردينالي وحسن الصقلي ونور الشريف، ونقّاد ملتزمين، كسيرج توبيانا ونورالدين الصايل ومصطفى المسناوي.
هؤلاء وغيرهم غذّوا ذاكرةً خصبة، جمعت ضفتي المتوسّط في حضن مدينة هادئة في شمال المغرب، ترجمها الشغف المنبعث من الصُور على اختلاف مقارباتها ومضمونها، بفضل استحضار ثالوث المدينة ـ الصُوَر ـ الذكريات، بطابَعَيه الرسمي والإنساني، المنفلتين من ضيق البرنامج، وسطوة الحدث.
في مكتبة "أغورا"، قُدِّم إصداران: واحدٌ بالعربية للباحث محمد نور الدين أفاية، بعنوان "معرفة الصورة في الفكر البصري، المتخيّل والسينما" (المركز الثقافي للكتاب، 2021)، وآخر بالفرنسية للمخرج سعد الشرايبي، بعنوان "أشلاء من الذاكرة السينمائية" (دار "3 ديسفيلم"، 2019). ثم أُسدل الستار على دورةٍ متميّزة من مهرجانٍ أضحى رقماً أساسياً في لائحة التظاهرات المحتفية بالسينما، في إحدى أعرق وأغنى مناطق العالم، ثقافياً وفنياً. حان الوقت لمنح المهرجان إمكانات أهمّ، توازي طموح القائمين على تنظيمه، لولوج قدرٍ أكبر من الاحترافية والجذب، في أفق اقتراب دورته الـ 30.
في حفلة الختام، أُعلن عن الجوائز، بعد وقفةٍ للاعتراف بجميل من يشتغلون في الكواليس، في شخص عز الدين بنشكسو، نظير الخدمات الكبيرة التي أسداها للمهرجان في مجالي التنظيم والشؤون اللوجستيّة، لأكثر من عقدين، قبل أنْ يصفّق الحاضرون طويلاً للممثل المصري شريف منير، الذي ألقى كلمة، خصّص حيّزاً منها للاعتراف بجميل من أثّروا فيه، وصاغوا ذائقته الفنية، وأبرزهم صلاح جاهين، مُهدياً تكريمه إلى أرواح من رحلوا منهم.